مجرد حادثة عادية يتم الترويج لها.. تضخيمها وإحاطتهابهالة من قدسية حيث يستحيل من بعدها الطعن علىصاحبها.. الذى أحالته آلة البطولة إلى كائن خرافي.. نزعتعنه بشريته بكل ما جُبلت عليه من نقائص وتناقض.. وهىالفكرة التي يعرضها الفيلم الإيراني“A Hero” للمخرج“أصغر فرهادي“ من إنتاج 2021 والحاصل على الجائزةالكبرى لمهرجان كان السينمائي مناصفة مع الفيلم“Compartment No.6” للمخرج الفنلندي “يوهوكوسمانن“.
“رحيم” المدفوع إلى الجحيم
استدان وعجز عن السداد لثلاث سنوات، ما دفع بالدائنللجوء إلى القضاء ومن ثم سُجن.. كان في مأزق لعل لهمخرج.. أما وأن يُزج به إلى حلبة “السوشيال ميديا“ ليواجهمهللين لا يلبثوا أن ينقلبوا عليه مع أقل بادرة تشكيك.. لتبدأمباراة قوام أهدافها فيديو مقابل فيديو.. مقطع يرفعه علىالأكتاف وآخر –فور مشاهدته– يضعه تحت الأقدام، منمنطلق تأكدهم من التدليس وكل ما في الأمر أنهم كانوابانتظار الدليل.
أول من بدأ اللعبة أول من يغادرها
مسئول السجن جلب قنوات التلفزيون لتوثيق نزاهة “رحيم” الذى أعاد حقيبة تحوى سبعة عشر قطعة ذهبية لمالكتها بعدجهد من البحث والتحري.. استدعى الكاميرات دون إيعازمن “رحيم“.. وحتى مع اعترافه له بشكل خاص إن امرأةيعتزم الزواج منها هي من عثرت على الحقيبة.. يقرر فورا أنَّلا داعى لذكر هذه التفصيلة، وهو ما سيتنكر له إزاء حملاتالتشكيك في رواية “رحيم“.
في البداية ربما يخيل للمشاهد أن الأمر برمته انبهار بفرادةسلوك شخص غالبية من سيخضعون لذات امتحانه وبذاتظرفه سيخفقون.. أما هو فنجح بامتياز؛ ولكن مع توالىالأحداث وخاصة مع محاولته استغلال تلعثم ولد “رحيم” وتسجيل فيديو يستدر شفقة الرأي العام يتضح بما لا يدعمجالا للشك أن الفيلم برمته لم يكن سوى تعتيم على حادثانتحار أحد نزلاء السجن من جراء سوء الظروف والمعاملةأيضا.
“بُص العصفورة”
زميل “رحيم” بالسجن والذى استبدل بعبارات الثناءوالاستحسان التي انهالت عليه من الزملاء تلك العبارةالمستهزئة من سذاجة الجميع.. لعبة “بص العصفورة” العابرة للأزمان البارعة بتغيير ثوبها تماشيا مع الموضة.. يتشتت “رحيم” فور سماعها، حتى إنه ينهى مكالمة هاتفيةكان يجريها ويهرع خلف زميله.. البراءة التي ترتسم علىوجهه، وتصبغ نبرته تؤكد استثنائية هذا الشخص.. وإن كانثمة تحريف في روايته؛ فهو لم يكن متعمدا، وحتى ثناؤهعلى إدارة السجن وإشادته بحسن المعاملة – منبعه بساطةتفكيره ونقاء سريرته.. الشخصيات العازفة عن التعمقواستنباط ما وراء الأحداث وقراءة ما بين السطور تتعامل معكل حادثة بصفتها وحدة مستقلة.. بالأساس هم مفتقدونلمبدأ الربط وخلق هيكل متكامل يزيل علامات الاستفهاموعلامات التعجب.. ويستعيض عنها بنقطة تنهى الجدلواللغط وتنهى معها الحاجة إلى أقراص الصداع.
البطولة تستنفر روح المحقق
وكأننا غير مصدقين أن ثمة نسل شبيه بالعم هابيل.. ومهماقدم إلينا من قرابين لا نتقبلها بل قد تزيدنا ريبة وتشحذعزيمتنا لنجتهد أكثر في البحث والتحري.. آملين في إثباتأنه كمثلنا مستنسخ من الأب قابيل.
القفص يجمع شمل كل الرعاة الرسميين
الجمعية الخيرية التي أطلقت حملة جمع تبرعات لأجل سداددين “رحيم” ومن ثم إطلاق سراحه.. لم يفتها أيضاًاستخدام الكارت المتعلق بظرف ولده.. وقد يتطور الأمر إلى كشف العورات والإعلان عنها؛ إيهاما بالنجومية.. فنجد“رحيم” يصطحب درع تكريمه أينما ذهب وكأنه بمثابةتأشيرة تذلل الصعب وتلين الحجر.. وولده يباهى أقرانهبظهوره في التلفزيون وينوه مسبقا عن برامج سيحل وأبوهضيفين عليها.. ولذلك تتحول أزمة “رحيم” إلى كيف سيتخلىولده عن مكتسبه من ذيوع صيته كابن البطل؟ وليس فيتجريده هو نفسه من رداء البطولة الذى ستر عرى سجنه.
الحب يعنى المجازفة
“فرخنده” البالغة سبعا وثلاثين عاما.. لظروف عملها –فيمركز تخاطب– تلتقى “رحيم” مرافقا لولده في الجلسات.. لتكتشف نقاءه وتقع في غرامه، وهو ما يُقابل بالرفض منشقيقها حين يتقدم لخطبتها.. “فرخنده” مدركة أن فرصةلقاء شخص مثل “رحيم” أندر من فرصة عثورها هي بالذاتمن بين أفواج بشر لا يفرغ منهم أبداً موقف الحافلات علىسبع عشرة قطعة ذهبية داخل حقيبة.
معجزة القطع الذهبية ليست في كونها حل سحري لمأزقهمالمالي كما اعتبرتها “فرخنده” في البداية.. وإنما في ردةفعل “رحيم” حين كانا وحدهما، وفى غياب كل الكاميراتعدا واحدة هي ضميره.. الكاميرا التي لا تطمح إلى رفعفيديوهات ومشاركتها ولا انتظار تسجيل الإعجاب وتدوينالتعليقات والتحول إلى “تريند“.. الضمير كاميرا فرديةتلتقط وتعرض لشخص واحد فقط غايته أن يتقاسم معالملائكة أرزهم حين يلامس رأسه الوسادة.
الإشارات يلتقطها أولئك الذين يمتلكون كاميرا فردية ذاتدقة عالية.. لا تشوشها أطماع ولا تحجبها أحقاد.. لايفوتهم منها ضئيل ولا خافت لذا حين شرع “رحيم” و“فرخنده” في بيع القطع الذهبية وتعطل الميزان ومن بعدهالآلة الحاسبة حسم الأمر بحتمية إعادة القطع لمالكها.
لعبة الترفع عن الأنا، إلغاء صيغ المبالغة فيما يخصشخصه.. وهو ما تجلى في حوار “رحيم” حين يحذف نفسهمن سيناريو حياته البائس، ويمنح الدور لمالك القطعالذهبية، ويجلد ضميره بتساؤلات حول شعوره بعدمافقدها.. ومدى حاجته إليها ومدى الأذى الذى سيقع عليه.. ترفعٌ كافٍ لأن تواجه “فرخنده” شقيقها ليعلو صوتها، بأنمثل هذا الرجل من منح مذاقا لحياتها، لذا فهي مستعدةلمنحه إياها بمنتهى الرضا.
دليل البراءة “فص ملح وذاب“
العثور على المرأة التي يدعى “رحيم” أنها صاحبة القطعالذهبية صار شرطا؛ لحصوله على الوظيفة التي ستضمن لهدخلا يسدد به المتبقي من ديونه.. المرأة التي لم تترك خلفهاولو خيطاً واحد يقود إليها فكل مكالماتها سواء مع “رحيم” أوشقيقته أجرتها من أرقام لا تخصها.. ثم وبمجرد حصولهاعلى القطع تذهب إلى صائغ لتتأكد من كونها ذهب دليليقطع بخداعها لـ“رحيم“.
“فرخنده” تجازف بانتحال شخصية المرأة؛ وتذهب لتدلىبشهادتها علها تنقذ “رحيم“.. ولكن الرسالة المؤرخة قبلأسبوع من حادثة العثور على الحقيبة؛ وتؤكد حيازته القطعالذهبية تسبقها ليفشل الأمر.. حيث يبلغ دائنه بأنه بصددسداد جزء من دينه وجاهزية المال.
من يغفر خطًأ فادحًا
“نازانين” التي تدور حولها الشكوك بأنها من أرسلت إلىالموظف صورة الرسالة.. فهى الشابة ابنة الدائن الأكثرتضرراً من تقاعس “رحيم” فثمة جزء من المال يمثل مهرهاوهو ما يعنى تأخر زواجها.. حوارها مع المتسبب فيما آلتإليه أحوالها، ونظراتها إليه يشيان بعمق جرحها خاصة معدورانها بساقية العمل بمكتبة الأب.
الفيديو القاسم للظهر حيث صورت “نازانين” وقعة اعتداء“رحيم” على أبيها بالضرب ومع نشرها على “السوشيالميديا“ أطاحت بما تبقى من رصيد البطل من مصداقية.. حتى أن الجمعية الخيرية توجه المبلغ الذى تم جمعه منخلال حملة تبرعات تخصه إلى إنقاذ آخر من حكم بالإعدام.
والحب يشحذ الذهن أيضاً “فرخنده” تذهب إلى إقناعمسئولة الجمعية الخيرية للتنويه على صفحتهم الإلكترونيةبأن “رحيم” من اختار إنقاذ حياة آخر في محاولة لمحو ماألحقته به وسائل التواصل من عار موكدة على كونها ملاكهالحارس.
كبش الفداء، فلأجل تعظيم “رحيم” لابد من تحقير “بهرام“.. فبات استعادته دينه بلا نقصان يوصمه ومجلسه وسط“ألتراس“ البطل يشعره بالمهانة.. فهو الوحيد من بينهم الذىأتى ليأخذ لا ليمنح متغاضين عن كونه أيضا الوحيد منبينهم المتضرر.. فأحكام “السوشيال ميديا“ لها خدرالكحول وسرعة تطايره أيضا.
وبعدما تنفذ الباقات وتتعطل “الروترات“ يتطاير كل زائف.. “رحيم” يقدم كرامة ولده على مهانة عودته إلى السجن، وماينتظره بعد مشاداته مع المسئول عنه.. وربما عزاءه يكمن فيانتظار “فرخنده” حبيبته و“مليحه” شقيقته وزوجها“حسين“ وكل من هم حقيقين.