بحيوية مجتمعها وتمرُّس أهلها في صنعة الفن والثقافة.. مازالت صناعة الموسيقي والغناء المصرية محتفظة بقدرتها علي التجديد والتجريب والمبادأة الفنية؛ حتي لو كانت في اتجاهات ترفيهية وخفيفة؛ ولكنها قادرة علي تبديد –ولو مؤقت– لحالة الاحباط ومزاج الكآبة والعجز الذي يسيطر علي روح ووجدان الإنسان العربي .
خمس أغنيات مصرية أطلقت في الشهور الأخيرة؛ انتشرت في العالم العربي انتشار النار في الهشيم مكتسحة “الترند” بمجموع مشاهدات واستماع وتحميل يزيد على عشرات الملايين علي مواقع التواصل الاجتماعي ناهيك عن الحفلات الموسيقية والإذاعات ومحطات التلفزيون للبعض منها .
الأغنيات الخمس بدون ترتيب هي “أنت الحظ” لـ”عمرو دياب” و”تعالى أدلعك” لـ “بهاء سلطان” و”حتة تانية” لـ”روبي” و”الغزالة رايقة” لفريق فيلم “من أجل زيكو” و”القلب يا ناس اشتكى” لفرقة “كايرو كي” وهو في الأصل إعلان لإحدى أنواع الشوكولاتة.
اللافت في هذه الأغنيات أنها في مجملها تحمل نبرة تفاؤل واضحة، وخفة دم ظاهرة او مستترة، ومحاولة للحصول علي السعادة وراحة البال “الغزالة رايقة والناس الحلوة سايقة” في “من أجل زيكو” فيما يمكن وصفه نفسيا بعملية هروب للأمام من واقع عربي قاسٍ، بل شديد القسوة بسبب الارتفاع المذهل للأسعار، وغلاء المعيشة في ظل سياسات ليبرالية تطحن الفقراء.
“والقلب يا ناس اشتكي ..محتاج هشتكة” فرقة “كايرو كي” أو بسبب الشعور بالمهانة مع تقزم العرب كأمَّة، ليس فقط أمام قوى عظمى ولكن حتي أمام قوى إقليمية تخترق أمنها ومجتمعاتها وأخيرا جيوشها بضباط من قوات العدو، أو بسبب مضاعفات جائحة كورونا التي جرحت معظم القلوب والأسر بفقدان أحبّة وخسارة وظائف وأرزاق .
اللافت أيضا أنها تحمل ما يمكن وصفه –بصورة ما– بعودة جماعية للرومانسية، فهي علي خلاف الأغاني التي سادت في مرحلة سابقة وتتضمن دعوات غاضبة للانتقام من الحبيب وتعريض بخيانته ووصفه بالغدار و”القمّاص” وقلة الأصل نجد هنا مع “عمرو دياب” أن “الحبيب هو الحظ نفسه، إنه الفرحة التي فاقت الخيال والاحلام”.
أو هو بخصاله وجماله وتجديده للروح “في حتة تانية غير بقية الناس” “روبي” أو هو يريد أن يسعد الحبيب ويبهجه فيطلب منه “طول خصامك زلزلني .. تعالي أدلعك وأروقك” لـ “بهاء سلطان”.
اللافت أيضا أن الأغاني كلها التي طافت شهرتها بكل البلدان العربية، هي بلهجة عامية مصرية مغرقة في محليتها، وإن لم يمنعها هذا من أن تكون مفهومة ومحفوظة بسهولة في العالم العربي، وهذا ربما يكون ردا علي مقالات ودراسات منها مقال شهير نشر علي “الإيكونيميست” البريطانية زعم كاتبه أن العامية المصرية التي احبها العرب، من أشعار بيرم وحداد وجاهين ونجم والأبنودي وسيد حجاب… إلخ وأفلام الأبيض والأسود والألوان، وغناء الست وعبد الوهاب وحليم؛ قد تراجع حضورها وتأثيرها.
والملاحظ أيضا أنها ككلمات أقرب للغناء الشعبي، وتأخذ المغنين والمؤدين لها في “سكته” حتي لو كانت شهرة المؤدي للأغنية بالأساس أنه مغني رومانسي كما في حالة “عمرو دياب”.
الأغاني تقدم دليلا علي قدرة الموهوبين [ بهاء سلطان ] في صناعة الفن علي العودة باستمرار للصفوف الامامية حتي بعد غياب طويل وعلي قدرة الاذكياء [عمرو دياب ] في البقاء علي القمة شعبية ونجاحا ماديا أو الصمود أمام الفرق الموسيقية الأحدث عبر النجاح في تجديد الجلد [ كايروكي ].
اللافت أيضا أن الطرب لم يعد هنا عنصرا رئيسيًا في تحقيق النجاح، فباستثناء مغنيين اثنين محترفين هما “عمرو دياب” و”بهاء سلطان” [الأخير هو مغني ومطرب معا ] فان الأغنيات الثلاثة هي إما لفنانة استعراضية ذات قبول جماهيري مخيف، وليست مغنية محترفة وهي “روبي” أو لفرقة موسيقية جماعية تعتمد منذ كانت فرقة “اندر جراوند ” علي اختيار الكلمات الجيدة والموسيقي الجديدة، وليس علي أصوات تعرف هي نفسها قبل غيرها أنها أصوات مؤدية وليست غنائية، فضلا عن أن تكون طربية. أما أغنية “الغزالة رايقة” فهي أغنية أداها فريق عمل فيلم “من أجل زيكو” وكلهم لا يحترفون الغناء .
كما تقدم أغاني البهجة الخمسة نموذجا لظاهرتين متوازيتن :الأولى هي اختراق أجيال جديدة من شعراء الأغنية والملحنين والموزعين ومخرجي الأغاني المصورة للساحة الفنية رغم الازدحام الشديد في اعداد الموهوبين المصريين.
والثانية: هي استحواذ ملحن علي روح الساحة الغنائية وطبعها بطابعه لفترة معينة وهنا يظهر عزيز الشافعي “أغنيات عمرو دياب وبهاء سلطان وروبي ” كملحن حاضر بقوة في أغاني مطربي المرحلة الناجحة، كما حدث ربما من قبل مثلا مع “حميد الشاعري” ومطربي جيل التسعينات.
هذه الاغاني قد لا تكون أغانٍ عميقة وقد لا تعيش سنينا مثل أغاني معينة لمنير “الليلة يا سمرا” أو علي الحجار “علي قد ما حبينا” بعضها مازال يطلب ويسمع منذ ٤٠ سنة وأكثر ولكنها دليل علي حيوية المجتمع في مصر، واستمرار صناعة الغناء والموسيقي في تجديد أساليبها بما في ذلك أغاني “الراب” وأغاني المهرجانات التي تستطيع أن تقول عنها -خاصة كلماتها- ما تشاء ويكون عندك كل الحق، ولكن عليك أن تكون منصفا في قدرتها علي الحضور والانتشار، وإلا كيف أصبح “حسن شاكوش” و”عمر كمال” مثلا يتمتعان بشعبية في الدول العربية، ولا يقتصر حضورهما علي إحياء أفراح شعبية صاخبة في الحارات والأزقة .