ثمة سؤال حائر.. يتكرر في كل عام، دون أن نجد له جوابا شافيا؛ وهو لماذا نرى انحدارا في سلوكيات البعض خلال شهر رمضان؟ خاصّة في الشوارع؛ رغم أن الحكمة الأساسية من الصوم؛ هي تزكية النفس البشرية!
يؤكد الدكتور حسن حنفي في كتابه “الدين والثقافة والسياسية في الوطن العربي” أن الذنوب تكثر في بعض الأوقات خلال رمضان، وتتحول سعادة الروح في كثير من الأحيان إلى انفلات البدن، وتأخذ الأرض زخرفها وتتزين؛ وكأن الدنيا هي الباقية.. صيام وجوع وعطش بالنهار، وإفطار بالليل ولهو ولعب باسم رمضان!
ويرسى المفكر الكبير في مؤلفه الهام، مبدأ هاما يغيب عن الكثيرين منا إذ يقول: “إذا كانت الغاية من الصوم تطهير النفس وتخليصها؛ يكون الصوم صدقة عليها وتكفيرا عن الذنوب، والصيام إصلاح للنفس واتقاء من فتنة الأهل وحب النساء والأولاد، أكثر من حب الحق، وليس الصوم جوعا وعطشا، وإنما هو إمساك عن الأهواء وسيطرة على الانفعالات وتوجيه للحاجات”.
فعندما يتحقق الصوم في معناه الحقيقي؛ ينعكس على كل شىء في المجال العام، ويشير إلى هذا الدكتور حسن حنفي بقوله “الصيام مسرة وفرح وابتهاج، فلا فحش في القول، ولا غضب على أحد، فالسيطرة على النفس علم، والصيام مبادلة السيئة بالحسنة، والعدوان بالعفو. هذه المعاني كلها حواها حديثُ الحبيب المصطفى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ فإذا كان يوم صوم أحدكم فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ” متفق عليه. وقال: “والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ”. قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِها”.
فالصيام بهجة وسرور وليس غما وكربا، والصيام وسيلة للسيطرة على حاجات البدن، الطعام والشراب والنكاح، وهو أيضا صيام عن الرذائل، وعن قول الزور والعمل به، والصيام ليس عذابا للنفس؛ بل ترويضا لها والصوم ليس غاية في حد ذاته؛ بل وسيلة لتقوية الإرادة وشحذ الهمة والسيطرة على الانفعالات وأهواء البشر”.
جزء كبير من حكمة الصوم هو أن يشعر الصائمون بالآخرين من حولهم، وهو المعني الذى نلمسه بوضوح شديد في سطور المفكر الكبير “الصوم إحساس بالآخرين، وتعاطف مع الفقراء والمحتاجين، وإحساس جماعي بترابط الأمة، فهو عبادة ومغفرة وجزاؤه الجنة، وفتح أبواب السماء لدعاء الصائم، والصوم أيضا وسيلة لمعرفة الأوقات والأحساس بالزمان، في الشهر واليوم والليل وساعة الإفطار والسحور.
والصوم إذن ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب؛ بل هو تكوين نفسي وذهني وبناء اجتماعي، وعلاقة بالعالم وصلة بالله، وهوجزء من كل وعبادة ومعاملة. ويكشف عن جوهر الإسلام، والصوم أساس التراحم الاجتماعي وتحقيق العدل بين الناس على مستوى الأخلاق طواعية واختيارا، قبل أن تحققه الشريعة على مستوى القانون”.
وللصوم فوائد لاتعد ولا تحصى من النواحي النفسية والبدنية والسلوكية.. يشير إليها كتاب “الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي” إذ يذكر حنفي أن “الصيام مفيد طبيا وبدنيا وفسيولوجيا، عن طريق تضييق مجاري الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء، وتسكين كل عضو وتهدئته، فللصوم تأثير في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحمايتها من التخليط الجالب للمواد الفاسدة، مثل الراحة الواجبة للبدن كله أوللآلة التي تعمل طوال الوقت، أو للعامل الذى يقضى ساعات طويلة في العمل، وقد فرض الصوم في وسط الإسلام، لا في أوله ولا في آخره، وتحديدا في السنة الثانية للهجرة فالتدرج نهج الإسلام في فرض أي حكمٍ على الناس؛ حتى يعتادوا عليه ولا يفروا منه”.
الرحمة حاضرة حتى في فرض الصوم، وهو ما يدعونا جميعا إلى أن نتراحم مع بعضنا البعض، خلال هذا الشهر الكريم، وفي بقية شهور السنة، وفي هذا يقول الدكتور حسن حنفي “وبالرغم من أن الصيام فريضة على كل مسلم ومسلمة، وركن ركين من أركان الإسلام؛ إلا أنه محدد بوقت وبقدرة وبأهلية، يجمع بين التشدد واللين، وبين العزيمة والرخصة، بين القوة والضعف دون مزايدة في الايمان.. صحيح أن رمضان هو أكثر شهور السنة عبادة، ففيه نزل القرآن وفيه اعتكف الرسول في العشر الآواخر منه، وفيه تكثر الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والذكر والاعتكاف، ومع ذلك فقد نهى الرسول عن وصال الليل بالنهار”.
“أول عادة اجتماعية في ممارسات الصوم في الوطن العربي بصرف النظر عن التمييز بين مواطن غناه وفقره، هو ما يسود هذا الشهر من وفرة وزيادة في الاستهلاك لدرجة الإسراف، وما يقع فيه من بزخ لدرجة التخمة، إنه عيد للغني لكي يظهر غناه، وعيد للفقير لكي يظهر أنه يساوي الغني في أكل اللحوم والتمتع بمأكولات رمضان وحلوياته ومكسراته، وفي الأقطار العربية التي مازالت غير مكتفية بغذائها؛ تزداد نسبة استيراد الدقيق والزيت والسكر، وترهق الميزانية العامة؛ بل تستدين الدولة لتوفير احتياجات رمضان، وهنا يطغى الواقع الاجتماعي على الحكمة من الصوم، وهو الإمساك والزهد والشعور بجوع الفقير ويصبح رمضان شهر الاشباع المطلق، يشعر فيه الفقير بمتعة الأغنياء أكثر مما يشعر فيه الغني ببؤس الفقراء، فباسم رمضان تتم ممارسات مضادة لحكمة الصوم التي تهدف إلى الترفع عن العالم، وليس الانغماس فيه ومن أهم مظاهر الممارسات الاجتماعية للصوم، والتي تناقض قيم الإسلام؛ هو ما يعتري الصائمين من كسل وإهمال في العمل، فأصبح شهر الصوم في الكثير من الأحيان شهر إقلال في الانتاج، برغم أن أحداث غزوة بدر دارت فيه، ولم يتكاسل المسلمون في الحرب؛ وانتصروا على العدو. وضعف البدن تعوضه قوة الروح؛ ومن الممارسات الاجتماعية في رمضان ازدحام الطرقات، ومخالفة قواعد المرور، وأخذ الطريق من الآخرين؛ بحجة ضرورة الوصول قبل موعد الافطار، وبدلا من الإحساس بالآخرين والتعاطف معهم وهى الحكمة من الصوم؛ تظهر الأنانية. وذلك بحسب ما يؤكده الدكتور حسن حنفي في كتابه “الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي”.