أظن أن السؤال الذى يتردد اليوم بقوة، داخل عقول ملايين البشر، هو ماذا يريد بوتين من العالم؟ وماهى الطريقة التي يفكر بها الروس؟ وفي أى مكان سوف يضعون قدمهم في المستقبل القريب؟ وهل تنتهي مغامراتهم داخل حدود العاصمة الأوكرانية كييف؟
هذه الأسئلة وغيرها خلقتها الحرب الروسية على أوكرانيا،التي مازالت تداعياتها تتوالى على جميع دول العالم بين لحظة وأخرى، وبين متفهم لمبررات الخطوة الروسية ومنتقد لها؛ تتواصل الحرب على الأرض وسط عقوبات غربية متصاعدة، يبدو أنها لم تنجح حتى اللحظة في دفع موسكو لاتخاذ قرار بوقف الحرب.
وبعيدا عن التطورات الميدانية على الأرض، فإن محاولة فهم المشهد برمته، لايمكن أن تتم بمعزل عن محاولة جادة للتعرف على الطريقة التي يفكر بها الروس، وما هى أبعاد وحدود الاستراتيجية الخاصة بهم؟ وهل هم اليوم أو غدا بصدد إشعال نيران حرب عالمية ثالثة كما تروج بعض وسائل الإعلام الغربية؟ أم أنهم يخوضون معركة للدفاع عن وجهودهم وفقا لما تكرره موسكو مرارا وتكررا، وأنهم اضطروا لدخول حرب فرضها الغرب عليهم.
ألكسندر دوجين واحد من أشهر الكتاب الروس، وهو باحث مهم في علم الاجتماع السياسي، وينتمى إلى تيار القوميين المناصرين لسياسة روسيا، المواجهة للغرب والساعية إلى استعادة مكانتها كقطب دولي، وله أكثر من أربعين كتابا ودراسة وبحثا من أهمها كتابه الضخم “جغرافية السياسية في روسيا” والذى يقدم بين سطورهإجابات وافية على عشرات الأسئلة التي تفجرت عقب الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث يساعدنا بالفعل على أن نقترب إلى حد كبير من الطريقة التي يفكر بها الروس اليوم، والتحركات التي يقومون بها من أجل أن يعودوا إلى عصرهم الذهبي كإحدى القوى الكبرى المهيمنة على صناعة القرار في العالم.
دعونا نبدأ معا القصة منذ البداية كي نتمكن من رؤية أبعاد المشهد برمته.. بين القرنين السادس والسابع بدأ العالم يعرف قبائل ذات أصول سلافية شرقية، استوطنت شرق أوروبا، وكانت تمارس حياة بدائية تعتمد على استثمار موارد الغابات وزراعة الأرض المقتطعة منها، والتجارة بين بحر البلطيق في الشمال والبحر الأسود في الجنوب، وتنسب هذه القبائل إلى شعب الفارانجية، الذى تعود أصوله إلى الفايكنج المستوطن لشبه جزيرة إسكندناوة.
لم يكن لدى هذه العشائر القدرة على بناء دولة، أو تشكيلحكومة، وكان القتال والفتن الداخلية يستنزفان طاقتها الداخلية؛ لذا لجأت إلى خيار غريب جدا، وهو استدعاء قبائل مجاورة أشد بأسا وتنظيما لتتولى حكمها، وبالفعل في عام 862 ميلادية وصل من شبه جزيرة إسكندناوة القائد “روريك” ومعه أفواج من القبائل الفارانجية من الفايكنج واتخذوا من مدينة “نوفغورود” على بحر البلطيقمركزا لحكم الأقليم.
لم يكن التركيب الاجتماعي والاقتصادي لهذه القبائل خلال تلك الفترة يتجاوز حالة “بدو الأنهار” الذين يتركون الحصان على شاطئ النهر، ثم يتخذون القارب سفينة وعربة حربية في آن واحد.. لقد جمعت هذه القبائل بين شعوب بدو السهوب وبرابرة أوربا الشمالية الفايكنج في أول مزج بين حضارتي أوروبا وأسيا.
روس كييف
كثيرون لايعلمون أن مدينة كييف التي تدور حولها المعارك الآن؛ تحتل موقعا هاما في التاريخ الروسي، يمكننا أن نقف على أبعاده بالعودة إلى كتاب ألكسندر دوجين الموسوعي “جغرافية السياسية في روسيا“ حيث جاء أمير الحرب أوليغ، وقرر نقل عاصمة السلاف الشرقيين مننوفغورود، التي لم يدم عمرها سوى عقدين من الزمان إلى كييف؛ لتنشأ مرحلة في التاريخ، يسميها المؤرخون بحقبة.. روس كييف. ولتصبح تلك المدينة أم المدائن في شرق أوروبا فيما بين القرنين التاسع والحادي عشر.. ويؤكد الكثير من المؤرخين أن كييف، لم تتأسّس من العدم، فالأرجح أنها كانت في الأصل محطة أسسها أمراء الخرز، واتخذوا منها نقطة لتجميع الجزية على نهر الدنيبر.
ظل الروس أسرى لهيمنة الخرز، إلى أن تمكنوا من إنزال هزيمة بهم، والتحرر من نفوذهم في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، ولأول مرة يصبح طريق القبائل الروسية مفتوحا إلى محور بحر قزوين، بعد أن أغلقه الخرزفي وجوههم لقرون طويلة.
كان الصراع على عرش كييف محتدما في أغلب الفترات، وكان الأمراء على الدوام يلجئون للاستعانة بالقوى الأجنبية؛ حيث كان كل منهم يأمل في حسم الصراع لصالحه، على حساب الآخر.. حيث كان البعض منهم يطلب تدخل بدو بحر قزوين والبحر الاسود، بينما كان يفضل آخرين الاستعانة بالفارانجية القادمون من إسكندناوة مرة أخرى.
تعاقب على حكم روس كييف أكثر من أربعين أميرا من آل روريك، استمرت فترة حكمهم ما بين القرن التاسع والثاني عشر، وكان مجتمع القبائل الروسية خلال هذه الفترة مقسما إلى شريحيتين تعكسان طبيعة النفوذ الأورواسيوي،فالنخبة الأجنبية كانت من ممثلي عرقية محاربة، فرضت نفسها على القبائل الريفية المسالمة التي تمثل الجزء الأكبر من السكان الذين كانوا عماد النظام الاقتصادي في الحياة.
من الناحية الدينية كانت هذه القبائل وثنية تعبد آلهة متعددةحتى اعتنقت الأميرة أوليغا، زوجة الأمير إيغور وخليفته على العرش بعد وفاته بين عامي 945 و962م، المسيحية والتي انتشرت في الدولة الروسية بوصول الأمير فلاديميرإلى السلطة التي تولاها خلال الفترة من 980-1015م حيث أصبحت الديانة الرسمية، وتم تنصير القبائل الوثنية، وهو ما مهد الطريق لتحقيق الوحدة الروسية والتي اعتمدت على الدين بالإضافة إلى الجانب العسكري والقومي ومنذ تلك اللحظة أضحت روسيا جزءا من الحضارة المسيحية الشرقية، حيث أصبحت الكنيسة الروسية تتبع مباشرة بطريرك القسطنطينية.
في البداية تم تصنيف روس كييف إبراشية تابعة للكنيسة اليونانية؛ لكن منذ عام 1100م صارت مطرانية مستقلة واستعارت روس كييف من بيزنطة أيضا الأبجدية الكيريلية التي تتطورت الأبجدية الروسية وفقا لها في وقت لأحق.
الجغرافيا السياسية
الجغرافيا السياسية تشير إلى أن هذه الدولة الروسية، التي كان مركزها روس كييف، تشكلت في القطاع الشمالي الغربي من العالم الطوراني الأسيوي، وجمع هذا الأقليم بين أقصى طرف للفضاء الأوروبي الشرقي،وأقصى طرف للفضاء الأسيوي الشرقي، ومن ثم فإن هذه الدولة كانت تحمل توجها جيوسياسيا منذ البداية، ومنذ تشكلها في دولة واحدة، وجدت روس كييف نفسها باستمرار مضطرة لمواجهة التحديات الجيوسياسية القادمة من جميع الجهات، فالجغرافيا السياسية وإن كانت قد منحتها ميزة تنافسية عن بقية الدول الأخرى، فإنها جعلتها تواجه تحديات وتهديدات على صعيد جبهات متعددة؛ ولذا أخذ تأثير الدولة الروسية يزداد في اتجاه نهر الفولغا دون أية صدامات.
وفي حلقات تالية سنواصل الإبحار في رحلة في عقل الدب الدروسي عبر كتاب “جغرافية السياسة في روسيا” لألكسندر دوجين.