أغلب الظن أن السيدة الجليلة خولة بنت ثعلبة، حين ذهبت إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم– شاكيةً باكيةً راجيةً؛ أن ينصفها من زوجها الذي ظلمها؛ لم تكن تعلم أن الخالق –تعالى– يسمع شكواها من فوق سماوات سبع، بل وسينزِّل على نبيه الكريم سورة بأكملها؛ تنصفها وتنصف كل من هُنَّ مثلها؛ ألا وهي سورة المجادلة.
ولعل من المهم عند التعرض لهذه السورة، أن ينقل الباحث رواية خولة للأحداث، كما أوردها كلٌّ من الإمام أحمد، والمفسر والمؤرخ الحافظ بن كثير.
حيث تؤكد خولة أن هذه السورة؛ نزلت فيها وزوجها، وكان يُدعى أوس بن الصامت، وتشير في روايتها إلى فارق كبير في السن بين الزوجين، دلَّ عليه تعبيرها عند وصفه بأنه “كان شيخا كبيرا ساء خلقه” فاجتمع على خولة الأمرّان، الهِرم والغِلظة.
ووفقا للرواية فقد جادلت خولة زوجها أوس في أمر ما، ولم يتقبل الأخير مجادلة زوجته له، فقال لها غاضبا: “أنت علي كظهر أمي”.
ويوضح ابن كثير أن هذه العبارة مشتقة من الظهر، وكان رجال العرب قبل ظهور الإسلام إذا قال احدهم لزوجته هذه العبارة؛ صارت محرمة عليه واعتبرت بمثابة طالق.
كان من الطبيعي في هذه الحالة أن تحزن خولة أشد الحزن؛ بسبب ما قاله زوجها، بل وأن ترفض أن يجامعها، فقالت له: “كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ، لَا تَخْلُصُ إليَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ”. ورفضت محاولات زوجها المتكررة لـ”مواثبتها” على حد تعبيرها.
ثم خرجت من دارها حتى أتت النبي الكريم، فذكرت له ما لقيت من زوجها المسن، إلا أن النبي– صلى الله عليه وسلم– الذي لم يشأ –فيما يبدو– أن يُفرّق بين زوجين، حاول أن يراجع خولة في هذه المسألة؛ فقال لها “يا خُويلةُ ابنُ عمِّكِ شيخٌ كبيرٌ فاتَّقي اللَّهَ فيهِ”.
غير أن خولة لم تتوقف عن مجادلة النبي الكريم في هذه القضية، بل وأصرت على موقفها وأقسمت ألا تبرح مكانها حتى يحكم الله تعالى في مسألتها.
وبالفعل تنزّل وحي الخالق العدل على نبيه الخاتم، وأتى منصفا لهذه السيدة الشاكية، فكان قوله تعالى “قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”.
وتمضي السورة لا لتدين “الظهار” أو العبارة التي قالها أوس فحسب، بل لتُحرّمها أيضا، فيقول تعالى “الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ”.
وهنا أدركت خولة أن الخالق –تعالى– قد قضى بعدله ورحمته في قضيتها، وسعى النبي الكريم لإيجاد حل لمشكلتها؛ فقال لها أن تنصح زوجها أن يُعتِقَ رقبةً، على سبيل الكفارة ليمينه الذي ألقاه عليها بالظهار؛ فقالت: لا يَجدُ. قال: فيصومُ شهرينِ مُتَتابعينِ. فقالت: يا رسولَ اللَّهِ إنهُ شيخٌ كبيرٌ ما بهِ من صيامٍ. قالَ: فليطعِم ستِّينَ مسكينًا. قالت: ما عندَهُ من شيءٍ يتصدَّقُ بهِ. قالَ: فإنِّي سأعينُهُ بعِرقٍ من تمرٍ. وقالت: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أعينُهُ بعرقٍ آخرَ. قالَ: قد أحسنتِ اذهبي فأطعمي بها عنهُ ستِّينَ مسكينًا وارجِعي إلى ابنِ عمِّكِ”.
ومن الواضح أن ملكة الجدال في الحق –إذا صح التعبير– لم تنقطع عند خولة، بوفاة النبي الكريم.. حيث اشتهر عنها أنها جادلت الخليفة العادل عمر بن الخطاب أيضا.. حيث يروي ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم؛ أن الخليفة التقاها وهو يسير مع الناس فاستوقفته؛ فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها، وانصرفت.
فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست -أي أخرت- رجالات قريش على هذه العجوز؟! فقال: ويحك! أو تدري من هذه؟ قال: لا.
قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها”.
إن النموذج الذي تشكله السيدة الجليلة خولة بنت ثعلبة يتناقض أشد التناقض مع ثقافة سائدة الآن في مجتمعاتنا العربية؛ كرسها تيار فكري بعينه يبغض لفظ الجدل ويعتبره من المحرمات، بل إن أول ما يُلقن اتباع هذا التيار، هو آلا يجادلوا وأن يلتزموا بالسمع والطاعة، أي أن يلغوا عقولهم ببساطة، ويتحولوا إلى آلات لا تناقش ولا تفكر.
يتناقض موقف هذا التيار، مع موقف الخطاب القرآني الذي لم يأنف من مجادلة امرأة للنبي الكريم، ولم يُدنها على الاطلاق، لأنه –ببساطة– كان جدالا في حق، وشكوى سيدة ضد ظلم حاق بها وطلباً للإنصاف.
بل إن الإدانة في الخطاب القرآني كانت للفعل الذي اضطر خولة للشكوى، فرفع عنها وعن كافة السيدات هذا الفعل الظالم وأبطله.
كما أن نموذج خولة، ينسف تماما الصورة التي يرسمها التيار المُشار اليه للنساء عامة؛ حيث يعتبر أن عليهن أن يطعن أزواجهن؛ حتى إن أساءوا معاملتهن، وهو بطبيعة الحال ما لم تفعله خولة.
بل يذهب هذا التيار؛ إلى حد اعتبار صوت المرأة في حد ذاته عورة، لا يصح أن يظهر أو أن تصدح به حناجرهن، وهي بطبيعة الحال صورة لا تصمد كثيرا، أمام ما قامت به خولة بنت ثعلبة في حضرة الرسول الكريم.
ولا يبالغ المرء إن قال إن الأمة بأسرها وخاصة بناتها أحوج ما تكون اليوم؛ لاستحضار نموذج خولة: نموذج الجرأة في الحق لا في باطل، والتمسك بهذا الحق والإيمان العميق بإنصاف الخالق.