“وسجدنا في براح السيدة نفيسة
إذ قال جدها الأرض مسجدي”
من قصيدة للشاعر الراحل فؤاد حداد.
في يوم السبت الموافق السادس والعشرين من شهر رمضان الفضيل عام ١٩٣ للهجرة٬ شرفت مصر بقدوم سيدة من آل بيت النبوة، هي السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج ابن الإمام الحسن ابن الإمام علي بن أبي طالب.
حظيت السيدة نفيسة منذ وصولها أرض مصر بمكانة رفيعة، وخاصة عند أهلها المحبين بالفطرة لآل البيت الكرام، والذين ما أن سمعوا بمقدمها حتى خرجوا لاستقبالها بالهوادج من العريش.
وما أن استقرت السيدة نفيسة في مصر؛ حتى صارت دارها مقصدا لجميع أهل البلاد، ومزارا لهم.. ومازالوا يتوافدون عليه حتى ضاقت بهم جنبات الدار.
وصارت دارها أيضا مكانا لتلقي العلم، حيث بات قبلة الفقهاء من أمثال الإمام الشافعي الذي كان دائم التردد عليها، والاستماع إليها وكان يسألها الدعاء له كلما ألم به المرض.
ومن زوّارها أيضا الإمام عثمان بن سعيد المصري الشهير بـ”ورش” شيخ قراء القرآن الكريم في مصر وصاحب القراءة الشهيرة بـ”ورش عن نافع” إضافة إلى رموز التصوف في مصر مثل: ثوبان بن إبراهيم الشهير بلقب ذي النون المصري، وفقهاء المذهب المالكي من أمثال عبد الله بن عبد الحكم، وسحنون بن سعيد وغيرهم.
إلا أن حب المصريين الجارف للسيدة نفيسة، لم يكن فقط لنسبها الشريف أو لمكانتها العلمية، وإنما أيضا لأنها باتت لسانهم الذي ينطق بالحق في وجه حكام البلاد إذا ما جاروا على شعبها.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، أن عددا من أهل البلاد أتى إليها شاكيا، من ظلم واستبداد أمير يدعى الخصيب بن عمرو؛ فصاغت بأسلوبها الفصيح رسالة إلى ذلك الأمير المستبد.
وكان نص الرسالة: “إن من حق الحاكم على الرعية، أن تقومه إذا ما اعوجّ عن الحق، وأن ترشده إذا غفل عن الصواب، وقد ملكتم فأسرتم وقدرتم فقهرتم وخلوتم ففجرتم، ورُدّت إليكم الأرزاق فنعمتم؛ ولم تعلموا أن سهام الليل نافذة لاسيما عن قلوب أوغرتموها”.
وأضافت “ومحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم٫ فاعملوا ما شئتم فإنا إلى الله متظلمون” وختمت رسالتها بالآية الكريمة “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”.
وظلت السيدة نفيسة على موقفها هذا المنحاز لبسطاء مصر حتى وافتها المنية على أرض البلاد التي أحبتها عام ٢٠٨ للهجرة وهي في الرابعة والستين من عمرها.
ولايزال ضريحها ومقامها الشامخ في حي من أحد أحياء القاهرة يحمل اسمها، قائما حتى يومنا هذا، ولا يزال بسطاء مصر يلجئون إليها وإلى مقامها اليوم كما كانوا يفعلون في حياتها.
ولعل المتأمل في سيرة السيدة نفيسة، لا سيما الخمسة عشرة عاما التي قضتها على أرض مصر؛ لا يسعه إلا أن يدرك الهوة والفجوة الشاسعة بين ما جسدته سليلة النبي الكريم، وبين ثقافة مغايرة تماما سيطرت على الخطاب الديني في المحروسة على مدار ما يقرب من نصف قرن.
ففي حين لم يجد علماء وفقهاء البلاد حرجا، في الجلوس بين يدي السيدة نفيسة، وتلقي العلم منها فإن هذا التيار يستكثر على النساء مجرد طلب العلم.
بل إن هذا التيار يرفض ما دأب عليه المصريون على مدار قرون، وهو زيارة ضريح السيدة نفيسة، وغيرها من آل البيت معتبرا أن هذه الزيارات شكل من أشكال الشِّرك.
والراجح عند كاتب هذه السطور، هو أن تفكيك هذه المنظومة الفكرية، التي سرت في أرض مصر سريان النار في الهشيم؛ يبدأ بالتعريف بالتراث الفكري للسيدة نفيسة، وغيرها من سيدات البيت النبوي، ممن شرفت مصر باستقبالهن وهن أحياء وشرفت أرضها أيضا باحتضان رفاتهن.