منذ بعثته وحتى بعد وفاته، كان الشخص النبي محمد –صلى الله عليه وسلم– موضوعا لعشرات القصائد التي تغنت بمآثره وتناولت حياته وسيرته بالمديح والتبجيل؛ فصارت قسما اصيلا من التراث الشعري العربي.
ولعل اللافت في فن المدائح النبوية، كما يؤكد الكاتب محمد عبد الشافي القوصي في كتابه “محمد- صلى الله عليه وسلم- في شعر النصارى العرب” أنه لم يقتصر على شعراء العرب من المسلمين، بل نافسهم فيه بني أوطانهم من المسيحيين ايضا.
حيث أتاح فن المعارضات الشعرية* لعدد من الشعراء العرب المسيحيين معارضة قصائد شهيرة في فن المديح النبوي؛ مثل بردة الإمام البوصيري و”نهج البردة” لأمير الشعراء أحمد شوقي.
ويشير القوصي إلى أن احدى أقدم هذه المعارضات الشعرية كانت من نصيب الشاعر السوري ميخائيل وردي، الذي صاغ قصيدة من (124) بيتا على غرار “نهج البردة” لشوقي بعنوان “أنوار هادي الورى”.
ولم تقتصر مساهمة الشعراء المسيحيين على هذا الفن؛ إذ تعداه إلى غيره من ألوان المديح النبوي، فالشاعر اللبناني حليم دموس يمتدح النبي الأمي في إحدى قصائده فيقول:
مرحى لأميٍّ يعلّم سفره نبغاءَ يُعْرُبَ حكمةً وبيانا
وعلى نفس النهج يسير شاعر القطرين خليل مطران؛ حين يشارك بني قومه من المسلمين احتفالهم بذكرى المولد النبوي الشريف وينشد في حب الرسول العربي قصيدة يقول فيها:
أَعَــــادَ ذَاكَ الْفَـــتَـــى الأُمِّي أُمَّتــــــــَهُ شَــمْـلاً جَـمِـيـعـاً مِـنَ الْغُـــــرِّ الأَمَـاجِـيـدِ
لَتِــلْكَ تَــالِيــةُ الْفُــرْقَــانِ فِــي عَــجَــبٍ بَــلْ آيَــةُ الحَــقِّ إِذْ يُــبْـغَـى بِـتَـــــــأْيـيـدِ.
ويشير في موضع آخر من القصيدة إلى جهاد النبي الطويل في سبيل دعوته، وما لاقاه وما تحمله من الأذى من قومه:
عَــانَــى مُــحَــمَّدُ مَــا عَــانَــى بِهِــجْــرَتِهِ لِمَـــأْرَبٍ فِـــي سَــبــيــلِ اللهِ مَــحْــــمُــودِ
وَكَـــمْ غَـــزَاةٍ وَكَـــمْ حَـــرْبٍ تَــجَــشَّمــَهَــا حَــتــى يَــعُــودَ بِــتَــمْــكِــيـــــنٍ وَتَــأْيِـيـد.
وامتد الافتتان بمديح الرسول الكريم إلى شعراء المهجر أيضا؛ حيث نجد الشاعر العربي جورج صيدح يصل الماضي بالحاضر؛ فيربط رحلة الإسراء بما يحدث لِمُسرَى الرسول في عصرنا:
يا من سريت على البراق وجزت أشواط العــنان
آن الأوان لأن تجدد ليلة المعـراج آن
عرّج على القدس الشريف ففيه أقداسٌ تهـــــــــان.
ولا يذهب شاعر مهجري آخر هو رشيد سليم خوري الشهير بلقب الشاعر القروي بعيدا؛ فيصوغ قصيدة بمناسبة المولد النبوي بعنوان “عيد البرية”:
عِــيــدُ الــبَـرِيَّـةِ عِــيــدُ الـمَـوْلِـدِ الـنَّـبَـوِيّ فِــي الـمَـشْرِقَيْنِ لَــهُ وَالـمَغْرِبَيْنِ دَوِيّ
عِـيدُ الـنَّبِيّ ابـنِ عَـبْدِ اللهِ مَـنْ طلــــــــــــعَتْ شَـمْـسُ الـهِـدَايَةِ مِــنْ قُـرْآنِـهِ الـعلوَيّ.
ولا ينسى بطبيعة الحال أن يذكر العرب –مسلمين ومسيحيين– بسالف مجدهم ويطالبهم بالسعي لاستعادته بالحفاظ على الوحدة واللٌحمة بينهم فيقول:
يَـــــا قَـــــوْمُ هَـــــذا مَــسِـيـحِـيٌّ يُــذَكِّـرُكُـمْ لا يُـنْهِضُ الـشَّرْقَ إلاّ حُـبُّـــــــــنَا الأخَـوِيّ
فَــــــإنْ ذَكَـــرْتُـــمْ رَسُــــــولَ اللهِ تــكــرِمَــةً فَــبَـلِّـغُـوهُ سَـــــلامَ الــشَّــاعِـرِ الـــقَــرَوِيّ.
ويربط شاعر آخر من شعراء المهجر هو رياض المعلوف بين رسالة النبي محمد ورسالة السيد المسيح لأن جوهر كلتا الرسالتين واحد:
وحد الله فالمؤذن واحـــــــــــد وبذكر النبيّ في العيد أنشـــد
يا رسول الله أنت وعيسى خير من يُصطفى ويُرجى ويُقصدْ.
وفي عام ١٩٦١ يلقي الشاعر السوري عبد الله يوركي حلاق قصيدة بعنوان “قبس من الصحراء” عن النبي الكريم يقول فيها:
إني مسيحي أجل محمـــــــــــــدا وأراه في سفر العلا عنوانــــا
وأطأطئ الرأس الرفيع لذكر من صاغ الحديث وعلم القرآنــــا
إني أباهي بالرســــــــــــول لأنه صقل النفوس وهذب الوجدانا.
ومن اللافت في أغلب هذه القصائد إن لم يكن كلها؛ أن الشعراء المسيحيين مدحوا النبي الكريم لا بصفته كرسول مختار من رب العالمين فحسب؛ وإنما كبطل قومي عربي؛ وكرمز مشترك للعرب جميعا، أيًا كانت عقيدتهم.
* المعارضة في الشعر: أن ينظم شاعر قصيدة يحاكي فيها قصيدة شاعر آخر؛ مستعملاً نفس البحر ونفس القافية، مع حرصه على أن يفوق نظمه القصيدة النموذج براعة وجمالا.