“بطلوع الروح” لم يكن هو العمل الفني الأول، الذى يغوص في تفاصيل التنظيمات السياسية ذات المرجعية الإسلامية؛ خاصة تنظيم “داعش” أو “دولة الخلافة الإسلامية” والتي أعلنت عن نفسها في العراق وبلاد الشام، وظلت تجوب المدن للقتال بحثا عن مزيد من المكاسب البشرية والمادية، وظلت تضم لسيطرتها أراضٍ جديدة في سوريا والعراق، معتمدة بالأساس على حالة اقتتال داخلي وصراعات مسلحة في تلك المناطق.
جاء مسلسل “بطلوع الروح” للمؤلف محمد هشام عبية والمخرجة كاملة أبو ذكرى وشارك في بطولته كل من منة شلبي وإلهام شاهين وأحمد السعدني ومحمد حاتم.
جاء هذا العمل بعد أن تابعنا في عام 2018، مسلسل “السهام المارقة” للمخرج محمود كامل والذى تعرض لتنظيم داعش من الداخل، وتفاصيل تجنيد الشباب كما ناقش وضعية المرأة في حياة داعش، وهى التي تمثل محورا كاشفا للعديد من الجوانب الفكرية والحياتية لذلك التنظيم المتطرف.
يأتي “بطلوع الروح” الذى حرص صُنّاعه، على التنويه في مقدمته أن القصة “مستوحاه من أحداث حقيقية” ليقتحم هذا العالم الغامض، ويثير العديد من التساؤلات ويتجدد الاشتباك الذى اشتعل قبل عرض المسلسل في النصف الثاني من شهر رمضان.
فمنذ الإعلان عن “بطلوع الروح” لم تتوقف السهام التي استهدفت النيل منه، ومن صُنَّاعه.. وقد كانت إلهام شاهين صاحبة النصيب الأكبر من الهجوم، ربما لكونها طرفا دائما في الجدل والاشتباكات الكلامية مع المتشددين؛ خلال السنوات الماضية وتحديدا منذ عام 2012، أثناء سيطرة جماعة الإخوان المسلمون على مقاليد الحكم في مصر وحتى الآن.
صفعة في وجه التطرف
ثم أن المسلسل يمثل صفعة حادة على وجه التطرف الديني، وأفكار داعش التي ينتمى إليها ويتبناها عدد كبير من رموز التشدد، سواء كانوا مِنْ مَنْ يطلق عليهم رجال الدين أو من رجالات السياسة.
جاء المسلسل في خمسة عشر حلقة يحكى قصة شاب مصري “أكرم” يجسده الفنان محمد حاتم، ينجح صديقة “عمر” أحمد السعدني في جذبه للانضمام إلى تنظيم داعش في سوريا ويقوم “أكرم” بخداع زوجته “روح ” التي أدت دورها منه شلبي وينجح في استدراجها مع ابنه الطفل الصعير “سيف” الذى يجسده الطفل معاذ عمار، ويدخلا إلى دولة الخلافة.
يكشف “عمر” عن رغبته القديمة، ومشاعر الحب تجاه “روح” والتي كانت هي الدافع لتجنيد “أكرم” وإقناعه بالمجيء مع زوجته إلى أرض الخلافة، ويدفع به نحو عملية عسكرية يدرك أنه لن يعود منها لتصبح “روح” فرسية سهله له.
تواصل روح محاولاتها الدائمة للهرب بطفلها من جحيم الحياة في داعش، وفى ظل تلك المحاولات؛ تكشف لنا القصة عن عوالم متناقضة في تلك الدولة التي يدعى أصحابها تطبيق شرع الله، حيث الخمور واستباحة الرشوة وفعل كل المحرمات في السر بينما يبدو الأمر مختلفا في العلن.
في وسط كَمٍ هائل من التفاصيل التي حاول المؤلف رصدها عن حياة داعش، كانت المرأة محورا دائما لتفكير الرجال، حيث المتعة هي الغاية الكبرى والهدف الأسمى من أجلها يحيا الرجال، ومن أجل “حور العين” في الجنة يستشهد الرجال أيضا.
هي أذن الغاية والمبتغى بعد دولة الخلافة، كما يشير صناع المسلسل إلى منهج الـ “دواعش” في تفسير النصوص الدينية، ومحاولة تطويعها من أجل أغراض شخصية وضيقة جدا، تكشف عن هذا شخصية “أم جهاد” بأداء إلهام شاهين؛ خاصة في المشاهد التي تُبْدِى خلالها رغبتها في الزواج من “عمر”.. ورد فعلها الحاد والعنيف عندما لم يتحمس للفكرة، ثم عندما رفض واختار “روح” التي أنقذها من تنفيذ حكم الإعدام؛ بضمها لسباياه.
نحن أمام حالة اشتباك دائم ومركز، مع عدد من القضايا والمفاهيم الخاطئة للنصوص الدينية؛ حاول صُنَّاع العمل كشفها.. لكننا أيضا أمام نماذج معظمها مشوه، ولديه أزمات نفسية؛ دفعته لهذا المصير والدرب، الذى يتمكن منه العنف وتحكمه الدموية.. ذلك لا يمنع أن العمل بدا متماسكا فنيا بشكل لافت؛ فقد ظهرت لمحات كاملة أبو ذكرى، المفتونة بالتفاصيل بالإضافة إلى تمكنها الخاص في مشاهد القصف والعنف والتصوير الخارجي.
كاملة وفريق عملها
كاملة أبو ذكرى التي عرفها جمهور السينما من أفلام “تلك الأيام” و”واحد صفر” و”يوم للستات” والتي حققت في الدراما التلفزيونية رصيدا من النجاحات في “بنت اسمها ذات” و”واحة الغروب” و”سجن النسا” و”بـ 100 وش”.
نحن إذن أمام مخرجة تدرك معنى الصورة المختلفة غير النمطية، وتبرع في استخدام الكاميرا بشكل مبهر؛ فتتعدد زوايا التصوير ودلالات المشهد مع قدرات غير محدودة على استنطاق ملامح الممثل، واستنفار طاقاته الإبداعية؛ وقيادة ماهرة محكمة للعمل الفني.. ساعدها على ذلك مخرج منفذ متميز هو محمد الطحاوي ومديرة تصوير موهوبة جدا ومتمكنة للغاية، هي نانسي عبد الفتاح وموسيقى معبرة لتامر كروان.
منة شلبي.. الموهوبة
لعل المبهر في هذا العمل بالإضافة لروعة الصورة وصدقها– كان الأداء الاستثنائي للموهوبة منة شلبي التي تثبت يوما بعد يوم أنها “ألفة” هذا الجيل من الممثلات العرب. نحن أمام فنانة قادرة على العبير عن مختلف المشاعر بصدق بالغ دون أن تنطلق بكلمة واحدة، دون انفعال زائد أو افتعال.. وذلك لامتلاكها ملامح شديدة الشفافية تعكس ما بداخلها دونما أي مجهود، فربما لا يرد اسم منة شلبي على بالك خلال مشاهدتك “روح” لقوة الحضور الطاغية للشخصية.
ظهر الفنان “أحمد السعدني” مختلفا عن ما عرفه جمهوره، ولعل شخصية “عمر” هي الأفضل له فنيا بعد ما قدم مؤخرا مع المخرج “يسرى نصر الله” شخصية المحقق في مسلسل “منورة بأهلها” والذى شاركه بطولته الفنان محمد حاتم.
شاب أداء الفنانة إلهام شاهين قدر كبير من التوتر؛ أعتقد أنه كان أكثر مما يجب، خاصة في مشاهد القتال، بينما كانت ردة فعلها تجاه رفض “عمر” الزواج منها صادقا وموفقا إلى حد بعيد.
كما جاء الأداء البسيط والمتميز للفنان عزت زين، والد “روح” متميزا ولافتا بقدر كبير ويستحق التحية على تلك الانفعالات الصادقة.
وعن الكاتب محمد هشام عبيه مؤلف المسلسل، فقد نجح في نقل صورة عن الأيام الأخيرة التنظيم داعش في منطقة الرقة شمال سوريا، ورغم الإسهاب في بعض المشاهد بخطابة استهلكت مساحة كبيرة من الأحداث –لاحظ أن المسلسل 15 حلقة فقط– وبين عدد من التفاصيل الحياتية لشيوخ داعش التي بدت كأنهم أنقياء –نموذج الشيخ نصار– الذى جسده الممثل جلال العشري، لكن يبقى للكاتب أنه امتلك جرأة صنع نص هادف يشتبك مع قضية شائكه، وهذا يكفيه ويحقق الغرض من صناعة المسلسل في هذا التوقيت الذى ما زلنا نواجه فيه تنظيمات مسلحة تتستر بالدين.
يبقى في النهاية عدة ملاحظات تتعلق جميعا بالحلقة الأخيرة من المسلسل؛ خاصة توجه صُنَّاعه لمعالجة القضية دراميا بطريقة مثيرة للدهشة، حيث يقتل “أكرم” رفاقه الدواعش؛ بعد أن تسبب موقفهم من الطفل والطبيب في شرخ عميق في علاقته بهم.. لكن المخرجة اختارت أن يقتلهم “أكرم” رميا بالرصاص أثناء صلاتهم، وهذا اختيار غريب جدا من جانب صُنَّاع المسلسل قد يخلق حالة من التعاطف لدى البعض من متلقي العمل الفني
وكان المدهش أكثر اختيار صُنَّاع المسلسل؛ لأن يكون الصحفي اللبناني “نور” هو من ينقذ “روح” وطفلها “سيف” ليس هذا فحسب؛ بل يكون هو من يقنعها أن عودتها إلى مصر تشكل خطرا عليها؛ وقد تلقى السلطات المصرية القبض عليها لأنها زوجة “داعشى” ومن ثم عليها التوجه معه إلى لبنان، مع وعدٍ بمساعدتها في ترتيب الأمر على أساس أنها صحفية كانت تؤدي عمله.. وبالفعل ترافقه نحو بيروت ليكون هذا هو مشهد النهاية!
هذه الملاحظات لا تنفى أن “بطلوع الروح” عمل من أهم الأعمال الفنية التي عرضت في سباق رمضان 2022، إن لم تكن أهمها.