لم يكن قضاء يوسف بن أيوب الشهير بصلاح الدين على الدولة الفاطمية في مصر، بعد نحو قرنين من استقرارها في المنطقة؛ مجرد قرار لحظي.. وإنما كان نتاجًا لجهود العديد من الأفراد في مقدمتهم بطبيعة الحال الخليفة العباسي في بغداد، وسلطان الشام نور الدين محمود، والفقيه نجم الدين الخبوشاني.
ويستحق الاسم الأخير التوقف عنده مطولا، إذ وضع هذا الفقيه هدف القضاء على الدولة الفاطمية –أو “العبيدية” كما كان يشير إليها عادة– نصب عينيه حتى قبل أن يستقر في القاهرة عاصمة مُلكهم.
ومن ناحية النسب فهو– كما يذكر المؤرخ الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء”– أبو البركات محمد بن موفق بن سعيد الخبوشاني، وهو الشافعي المذهب الصوفي التوجه.
وهو كما يدل اسمه من خبوشان، وهي بلدة صغيرة في ناحية نيسابور في بلاد فارس.
درس الفقه على يد محمد بن يحيى، فقيه نيسابور وأحد أئمة رواة الأحاديث النبوية الشريفة، وبدا واضحا منذ سن مبكرة قدرة الخبوشاني المدهشة على الحفظ؛ حيث استحضر كما يذكر الذهبي كتاب “المحيط” بالكامل رغم كونه في ستة عشر مجلدا ضخما.
ويشير ابن خلكان في كتابه “كتاب وفيات الأعيان” أن أصحاب الخبوشاني كانوا “يصفون فضله ودينه وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا” كما وصفه الذهبي بأنه كان ”قشفًا في العيش، يابسًا في الدين”.
تعرّف الخبوشاني على آل أيوب الذين ينتمي إليهم صلاح الدين؛ قبل أن يذهب هذا الأخير إلى مصر، مع عمه أسد الدين شيركوه، بتوجيه من نور الدين محمود، لتلبية استغاثة وزراء الدولة الفاطمية به لإنقاذهم من عدوان صليبي وشيك على مصر.
كان الخبوشاني يجاهر في مجلس كل من نجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، وأخوه شيركوه ببغضه وعدواته للدولة الفاطمية، وكان يقول صراحة أنه ينوي أن يصعد إلى مصر، ويزيل ملك بني عبيد أي الفاطميين على حد تعبيره.
انتقل الخبوشاني إلى مصر، في وقت تولى فيه يوسف بن أيوب منصب الوزارة في الدولة الفاطمية؛ مكافأة له على همته في دفع الصليبيين عن مصر.. فقرّب بن أيوب، الخبوشاني وكرمه كما يروي ابن خلكان.
وبدا واضحا تأثير الفقيه الشافعي، على الوزير الشاب، ونيته أن يجعله أداة لتنفيذ مشروعه في إنهاء حكم الفاطميين، حيث أشار عليه بعمارة المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي في مصر، ولهذا الاقتراح دلالة واضحة حيث أصبحت هذه المدارس لاحقا؛ أداة في سبيل إعادة مصر إلى المذهب السني بعد سنوات من سيادة الفقه الفاطمي.
ويروي ابن خلكان أن صلاح الدين لما عمّر المدرسة؛ فوّض الخبوشاني بمهمة التدريس فيها، وكان ذلك في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة للهجرة.
ومن موقعه الجديد.. أخذ الخبوشاني ينتقد أهل القصر الفاطمي، حيث يروي الذهبي أنه “جعل سبّهم تسبيحه” ولما حاروا في أمره؛ بعثوا إليه رسولا برشوة مالية قدرها أربعة آلاف دينار فردها عليهم.
وحانت اللحظة التي انتظرها الخبوشاني طويلا؛ حين توفّي الخليفة العاضد آخر خلفاء الدولة الفاطمية في مصر، فلما كان يوم السابع من شهر مُحرَّم سنة 567 هـ المُوافق 10 سبتمبر سنة 1171م، قطع صلاحُ الدين الخِطبة بمصر للخليفة الفاطمي وأقامها للخليفة العبَّاسي، وأعاد السَّواد شعارُ العبَّاسيين.
وكان للخبوشاني دور مهم في هذه الخطوة التاريخية، حيث تهيب الخطباء الدعاء لبني العباس على المنابر بدلا من الفاطميين؛ فوقف الخبوشاني بعصاه أمام المنبر، وأمر الخطيب بذلك، ففعل. ومن اللافت أن هذا الأمر قد مر مرور الكرام إذ كانت الدولة الفاطمية قد لفظت أنفاسها بالفعل، ولم يبق سوى إعلان وفاتها رسميا.
وبقي الخبوشاني بعد أن حقق هدفه على موقفه من الحكام حيث يروي الذهبي أنه “عاش عمره لم يأخذ درهما لملك، ولا من وقف، ودُفن في الكساء الذي صحبه من بلده، وكان يأكل من تاجر صحبه من بلده”.
وظل الخبوشاني يعيش على هذا النحو حتى وافته المنية يوم الأربعاء الموافق الثاني عشر من شهر ذي القعدة سنة 587هـ، في المدرسة المذكورة، ودُفن في قبة تحت رجلي الإمام الشافعي.