لم يكن تسليم القائد المصري أحمد عُرابي سيفه إلى قائد القوات الإنجليزية الغازية الجنرال سيمور في شهر سبتمبر من عام ١٨٨٢، نهاية لتجربته التي عُرفت باسمه “الثورة العُرابية”.
حيث ظل كما يذكر المستشرق الإنجليزي وصديق عُرابي “ويلفريد بلنت” الذي سجّل تجربته في كتابه “التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر” “حيا في ضمير شعبه لقرون طويلة”.
لم تغير النهاية الدامية لمعركة التل الكبير في ١٣ سبتمبر عام ١٨٨٢، ولا قرار عُرابي تسليم ذاته إلى الإنجليز بعدها– من مشاعر شعب مصر تجاهه وتجاه ثورته؛ حيث كانت الجموع.. كما يؤكد الكاتب الصحفي الراحل محمد عُودة في كتابه “قصة ثورة” لا تنقطع عن الطواف حول سجن عُرابي في باب الخلق وهم يهتفون “الله ينصرك يا باشا” ويكتبون هذا الهتاف على جدران السجن.
كما لم ينس شعبنا قائده حين تم نفيه مع صحبه إلى جزيرة سيلان، وظل ذكره على ألسنة البسطاء الذين اعتبروا أن “الولس -أي الغدر- كسر عُرابي”.
وفي المقابل، فإن هؤلاء الذين مارسوا ما اسماه الشعب “الولس” كانت نهاياتهم مغايرة تماما لما كانوا يرجونه من تعاونهم من الإنجليز.
فـ “علي خنفس” الضابط الذي خان الجيش المصري في معركة القصاصين؛ فاتحا بذلك الطريق للقوات الإنجليزية؛ اكتشف فيما بعد أن من باع وطنه لهم لم يفوا بوعدهم له؛ إذ لم يدفعوا له شيئا من المبلغ المتفق عليه، في مقابل خيانته وظل “خنفس” يطالب به حتى وفاته دون جدوى.
وكل ما حصل عليه “خنفس” بعد إحالته إلى الاستيداع، هو معاش هزيل لا يتجاوز ١٢ جنيها، وعاش في حالة من العوز والفقر في مسكنه في حي السيدة زينب؛ حيث قاطعه سكان الحي وعاملوه مثل المنبوذ.
أما أحمد عبد الغفار، الضابط وقائد الخيالة في الجيش المصري الذي انسحب بقواته من التل الكبير؛ تاركا رفاقه فريسة لمدافع الإنجليز، فلم تشفع له هذه “الخدمة” التي قدمها للقوات الإنجليزية، حيث أُودع السجن مع قادة الانتفاضة العُرابية، والأدهى من ذلك أن الجنيهات الإنجليزية التي تقاضاها من الغزاة، اتضح لاحقا أنها مزيفة كما اكتشفت زوجته.
أما “سعود الطحاوي” شيخ البدو في الشرقية والذي كان “يعظ إخوانه العربان بعصيان عرابي” ويمهد الطريق للقوات الإنجليزية، كما يذكر الإمام محمد عبده في مذكراته، رغم ثقة عرابي فيه، فإنه تقاضى ثمن غدره في صورة ذهب خالص، وألف فدان من الأراضي؛ إلا أنه دفع مقابل ذلك ثمنا باهظا، تمثّل في نبذ قبيلته له وتجنبهم التعامل معه بسبب خيانته.
ولم يختلف مصير محمد باشا سلطان، رئيس مجلس النواب المتعاون مع الإنجليز، كثيرا عن غيره ممن انقلبوا على عُرابي، حيث لم ينل الباشا ما كان يتمناه من تعاونه مع المحتل، وهو منصب الوزارة حيث عهد بها الإنجليز إلى رياض باشا.
وبقي سلطان كما يذكر النائب عبد السلام المويلحي حتى وفاته “دائم الحزن” و”يردد دائما أنه يرجو أن يغفر له عُرابي” وكان أشد ما يفزع البرلماني السابق هو “أن يدرج اسمه في تاريخ بلاده بصفته الرجل الذي خان وطنه، ودفع ثمن غيرته من عُرابي التي أدت به إلى الهلاك”.
بل إن المستعمرين أنفسهم لم يحظوا بمجد الفاتحين الذين كانوا يحلمون به، ولم تدم روايتهم عن احتلال مصر الذي صوروه كفتح مبين سوى لفترة قصيرة من الوقت.
ففي أعقاب مقتل جاسوسين بريطانيين في صحراء مصر، هما المستشرق “بالمر” والكابتن “جيل”.. عهدت أسرتا القتيلين بأوراقهما، التي عُثر عليها مع جثتيهما إلى “بلنت” الذي استخدمها لفضح أساليب بريطانيا لإتمام احتلال مصر.
كشفت الأوراق عن أساليب الرشوة التي استخدمها الإنجليز؛ لا سيما مع قبائل البدو.. وعلّق “بلنت” على ذلك بقوله: “أنه لا فرق بين هذا الأسلوب البريطاني، وبين أساليب السلاطين الذين تنتقدهم بريطانيا عادة”.
وانتقل الجدل حول هذه الأوراق الى مجلس العموم البريطاني؛ حيث سببت حرجا بالغا للحكومة، وعلّق أحد النواب الإنجليز على القضية بقوله “هذه حرب لا يمكن أن يفخر بها قائد بريطاني أو أي عسكري”.
لم تفلح الخيانة ولا الاحتلال، في انتزاع حب القائد من قلوب الشعب، أو وقف مقاومة هذا الشعب بصورها المختلفة؛ حتى استطاع أن ينتزع استقلاله عام ١٩٥٦.