التأويلية مفهوم إجرائي عرفي في تقنيات القراءة، وأدوات فهم النصوص وتبيان معانيها. وهو بهذا مفهوم يجب أن يندرج ضمن الإجرائية والآلية، لا ضمن المذهبية.. إلا أن الملاحظة التي نود أن نشير إليها هنا، هي أن كثيرًا من النقاد العرب قد ترجم هذا المصطلح إلى العربية في صورته الغربية، فأطلق عليه “الهرمينوطيقا”.. لا ندري لماذا؟ ما دام العرب عرفوا هذا المفهوم، وتعاملوا معه تحت مصطلح التأويل.
وإذا ما حاولنا مقاربة التأويل كمصطلح وكمفهوم، في الثقافة العربية الإسلامية.. فلعل أول ما يواجهنا في هذا الشأن، أن التأويل وإن كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، إلا أن التأويلية الإسلامية تأسست على كتاب الله العزيز، كمصدر أساس.
الاختلاف المنهجي
ورغم أن كثيرًا من الآيات الكريمات، وردت فيها لفظة تأويل في أبنية مختلفة، إلا أن الآية الواردة في سورة “آل عمران” ربما تكون هي الآية التي يتمحور حولها الأصل في معنى التأويلية في الثقافة الإسلامية بصفة عامة، وفي ثقافة تأويل الكتاب على وجه الخصوص.. وهي قوله سبحانه “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ” [آل عمران: 7].
وإذا كانت لفظة تأويل في هذه الآية، قد وردت مضافة إلى الهاء الدالة على المتشابه.. فلعل هذه الإضافة، هي التي جعلت المفسرين يقصرون معنى التأويل على التفسير، ويفهم كثيرًا منهم أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله، وأن التأويل منهي عنه بفحوى الخطاب، أي بدلالة الوصف “فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ”.
ولعل ذلك، هو ما أدى بهذا الكثير إلى رفض التأويل، أو –في الحد الأدنى– عدم الترحيب به.. فالصنعاني في كتابه “ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان” لا يرحب بالتأويل، وذلك حين ما يقول “إن المتأولين إنما يعنون وجوه التأويل بالظن أو الاحتمال، فأما الاحتمال فليس علمه البتة لا حقيقة ولا مجازًا. وأما الظن فقد يسمى علمًا مجازًا، ولكنه هنا ممنوع، لأن العلم المضاف إلى الله تعالى لا يجوز فيه إلا الحقيقة”.. أيضًا ابن تيمية لا يرحب بالتأويل. ففي كتابه “موافقة صحيح المعقول لصحيح المنقول” يرى أن “الناس لو ردوا إلى غير الكتاب والسنة من عقول الرجال ومقاييسهم وبراهينهم، لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافًا واضطرابًا وشكًا وارتيابًا”.. السيوطي كذلك لا يأخذ بالتأويل وذلك بسبب أن “النقل والرواية عن الثقات قلما يختلف، أما دلائل العقول فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير ما يرى الآخر”.
رغم ذلك، فإننا يمكن أن نلاحظ أن كثيرين، يرحبون بالتأويل ويأخذون به. وفي ما يتعلق بمشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، على وجه الخصوص.. فابن رشد كمثال وبعد أن يتناول معنى التأويل بكونه “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب” يؤكد في كتابه “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” على أن “كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب فيها مؤمن”.. أما الجرجاني كمثال آخر، وفي كتابه “التعريفات” فيحدد معنى التأويل ويفرق بينه وبين التفسير، فيقول “إن التأويل في الأصل الترجيح، وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، إذ كان من المحتمل الذي يراه موافقًا بالكتاب والسنة”.. ثم يأتي الزمخشري، كمثال أخير، ليعلل وجود التأويل عبر تفسيره للآية الكريمة (آل عمران: 7). ففي كتابه “تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل” يرى أن “الله تبارك وتعالى لو أنزل القرآن كله محكمًا، لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، لأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال, ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به. ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق، والمتزلزل فيه”.
لذلك لا نغالي إذا قلنا إن الموقف من التأويل، كان قد خضع في الكتابات الإسلامية غالبًا، إلى الاختلاف المذهبي القائم على اختلاف المنطلق الفكري، العائد بدوره إلى اختلاف في مناهج الاجتهاد، أو إلى اختلاف في الفهم اللغوي لبعض الآيات الكريمات الواردة في كتاب الله العزيز.
ومن ثم فإن مقاربة التأويل، كمفهوم وكاصطلاح في اتجاه محاولة اكتشاف معناه ودلالته.. لابد من تعتمد على دائرة المعنى الذي تتخذه اللفظة في اللسان العربي، وعلى دائرة الدلالة التي تؤكدها مواضع ورودها في كتاب الله الكريم.
دائرة المعنى
جاءت لفظة تأويل اشتقاقًا من مادة “أول” وهي تشير في اللسان العربي إلى فعل من أفعال الأضداد، وهي أفعال كل منها يحمل معنيين: المعنى والمعنى المضاد تمامًا. وهي أيضًا أفعال أحيانًا ما يأتي الفعل منها متضمنًا المعنى الأول، وأحيانًا ما يأتي محملًا بالمعنى المضاد، ثم أحيانًا ما يأتي محملًا بالمعنيين معًا. ومنها كمثال “ظن” ولها معنيان متضادان، الشك واليقين؛ ومنها كمثال آخر “قسط” البر والإحسان، والجور والطغيان.
وبملاحظة الاشتقاق اللغوي للفظة تأويل، من “أول” يبدو أحد المعنيين لهذا الفعل وللفظة المشتقة عنه الرجوع “آل الشيء يؤول أولًا ومآلًا رجع. وأول إليه الشيء رجعه. وألت عن الشيء ارتددت”. ومن ثم فالتأويل، هو تفعيل من أول يأول تأويلًا، أي رجع وعاد؛ ولأنهما لا يكونان سوى إلى الأصل، الذي يمكن العود والإحالة إليه، لذلك يبدو أن المعنى الأول للفظة تأويل يتمحور حول “العودة إلى أصل الشيء” وذلك لاكتشاف دلالته ومغزاه. وفي هذا المعنى، جاء قوله سبحانه: “هُوَ الْأَوَّلُ”، في الآية: “هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” [الحديد: 2].. ولنا أن نلاحظ هنا، أن هذا هو الموضع الوحيد الذي وردت فيه أسماء الله الحسنى، يفصل بينها حرف “الواو”.
لكن لفظة تأويل، كما تعني الرجوع والعودة إلى أصل الشيء، فإنها تعني، في الوقت نفسه، الوصول إلى غاية وهدف. وهذا هو المعنى الثاني للفظة، وللفعل المشتقة عنه. إذ كما جاء في لسان العرب “أول الكلام وتأوله دبَّره وقدره، والتأويل المرجع والمصير، مأخوذ من آل يؤول إلى كذا، أي صار إليه. وأولته صيرته إليه”. ومن ثم فالتأويل، على هذا الجانب هو تفعيل من آل يؤول تأويلًا، أي صار؛ ولأن هذه الصيرورة تستهدف الوصول إلى غاية، وأن هذه الأخيرة هي ما يمكن أن ينتهي إليه الشيء، لذلك يبدو أن المعنى الثاني للفظة تأويل ينبني على “ما ينتهي إليه الشيء”. وفي هذا المعنى، جاء قوله تعالى: “وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ” في الآية “بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ” [يونس: 39] أي أنهم تعجلوا بتكذيب القرآن، ولم يؤول بعد.
وهكذا، فإذا كانت لفظة تأويل تعني العودة إلى أصل الشيء، وتعني ما ينتهي إليه الشيء، فإن الذي يجمع بين المعنيين هو دلالة الصيغة الصرفية “تفعيل” على الحركة؛ وهي دلالة لم يلتفت إليها كثير من اللغويين في تحليلهم المعجمي. لذلك، فإن الدلالة التي يتضمنها ويشير إليها مصطلح التأويل تنبني بالأساس على الحركة؛ حركة بالشيء أو بالظاهرة، إما في اتجاه الأصل لاكتشاف دلالته ومغزاه، وإما في اتجاه الغاية لمعرفة التوجه والمصير. وإذا كان الرجوع إلى الأصل هو حركة عكسية، فإن الوصول إلى الغاية هو حركة مستقبلية تطورية نامية.
وبالتالي، ومن حيث إن هذه الحركة ليست حركة مادية، بقدر ما هي حركة ذهنية؛ فإن دلالة مصطلح التأويل تتمحور حول “حركة ذهنية في إدراك الأشياء والظواهر والوعي بها”؛ والإدراك هو “إعطاء الأشياء والظواهر معان محددة”، أما الوعي فهو “كيفية التعامل مع معاني الأشياء والظواهر”.
هذا عن دائرة المعنى الذي تتخذه لفظة تأويل في اللسان العربي.
فماذا عن التأويل، في كتاب الله العزيز؟… يتبع.