صدرت مؤخرا رواية جديدة باللغة الإسبانية بعنوان “الضوء الذي كنا عليه.. ثورة قرطبة 1009م” ونظرا لما تضمّنته الرواية من أفكارٍ ورؤى تستحق النقاش والتحليل لأهميتها.. إذ تتناول فترةً وأحداثا بالغة الأهمية في تاريخ شبه الجزيرة الأيبريبة – كان هذا العرض المقتضب للرواية، مع تلخيص لحوارٍ كان قد أُجْرِيَ مع الكاتب الروائي والناشط القومي الأندلسي أنطونيو مانويل.
تقع الرواية في (272) صفحة، وهي من القِطع المتوسط، وقد نشرتها دار النشر “Editorial Almuzara” في أبريل الماضي باللغة الإسبانية.
تستحضر الرواية حدثا من أهم أحداث التاريخ الأيبيري الذي تعرّض للتجاهل المتعمد، ألا وهو ثورة قرطبة عام 1009م، إلى انهيار الخلافة فيها عام 1031م.
يُدخلنا المؤلف إلى لحظة متجاوزة في تاريخنا؛ ليمنحها ضوءا وصوتا يطغى على الظلام والسرية التي تحيط بها، في صياغة يخلط فيها الكاتب بين التاريخ والسياسة والأدب.
في تلك الفترة التي تُعرف في بعض المصادر التاريخية، بفتنة الأندلس أو الفتنة البربرية الكبرى– سادت الحرب الأهلية وغاب الاستقرار مع سقوط الدولة العامرية، وانتهاء بالانهيار النهائي لخلافة قرطبة.
بدأت الأحداث بانتفاضة أهالي قرطبة والتي كانت تعرف آنذاك بعاصمة العالم، ضد استبداد أبناء المنصور الذين اتخذوا من المرتزقة والأصوليين أعوانا لهم. لم يكن هذا التمرد عارضا، بل كان نتيجة طبيعية لحركة شعبية خُطِّطَ لها في سرية.
منحت الثورة المجتمع القرطبي قوة كبيرة، وصارت بمثابة العمود الفقري له، فكانت سببا في إنشاء جيش خاص، ودمجه في الحكومة الناشئة؛ لكن الصراع بين أنصار الاستبداد الطامعين في استعادة الحكم، وشعب قرطبة الحريص على عدم فقدان السلطة المكتسبة أدى إلى نشوب حرب أهلية طويلة ودموية، تسببت في تدمير مدينة الزهراء، وسقوط الخلافة الأموية ذاتها، عام 1031م. ليصبح من غير الممكن في المستقبل أن يعود أي شيء كما كان.. الفريد في الأمر أن هذه كانت أول ثورة شعبية في شبه الجزيرة الإيبيرية (وأوروبا).
الأدب والتاريخ.. تناقض وتقاطع!
رواية من الخيال، دون الابتعاد عن حاضرنا. رواية تتناسب تماما مع العالم الأدبي والشخصي لمؤلف يعطي أولا أحد المفاتيح الرئيسة للصحفي، قبل البدء في الكتابة والبحث والعثور على العنوان الذي ألقاه الكاتب في مقابلة قبل تسع سنوات، ويبدو اليوم وهو على أبواب الانتخابات الأندلسية الجديدة، وكأنه نذير شؤم.. مثل تلك الثورة الشعبية التي تضيء عيون أنطونيو مانويل عندما يتذكرها… وإلى ملخص الحوار.
يقول المؤلف: إن لفظة “الرواية التاريخية” هي تناقض لفظي. من المستحيل صنع التاريخ من رواية.. حيث في الرواية خيال دائم. حاولت التفكير في البحث عن اليوتوبيا، وما يعنيه فقدانها، وما تعنيه الخيانات أثناء هذا البحث، والأسباب التي تثيرها. وأعتقد أنه لا يوجد فرق كبير في ذلك، بين الثورة الشعبية 1009م، في قرطبة وما يجب أن يحدث الآن.
مواجهة الطغيان.. الشعب هو خليط بين الناس والطبقات، ومنقسم بين الضعفاء والأقوياء والطامعين في السلطة، وحين يعلن أحدهم نفسه خليفة، فسيواجه أفراد الشعب طغيان أحفاد المنصور. لدرجة تدمير رمز ذلك الطغيان، وهو مدينة الزهراء.. وصل الدمار إلى حد أننا اليوم لا نكاد نعرف مكان تلك المدينة.
كان رد الفعل على هذا التمرد الشعبي الأول؛ أول حرب أهلية كبرى في شبه الجزيرة (الأندلس). لأن هذا يدرس دائما باعتباره “فتنة”. الكل ضد الكل: الكاثوليك، الشعب، الحكام، الصقالبة، العامريون، إلخ… جميعهم يطلب المساعدة من الممالك المجاورة كل وفق أجندته. فعدو الأمس أصبح صديق اليوم. بعبارة أخرى، كانت حربًا أهلية كاملة خسرنا فيها، كما هو الحال دائمًا في أية حرب.
إذن ما الذي كان يسود مجتمع الأندلس؟
هل أسطورة التعايش السلمي للثقافات، أم صراع دائم وحروب؟
للتوضيح.. هل كان هناك تعايش سلمي في الغرب/أوروبا بين عامي 1900 و1950؟ خلال هذه الحقبة، وقعت حربان عالميتان، دكتاتوريات، حروب أهلية… إلخ. حسنًا، من الواضح أيضا أنه خلال ثمانية قرون من الأندلس حدث الكثير. في الواقع عاش الناس من مختلف الأعراق والأديان معا في الأندلس تماما كما كان الحال في فترات أخرى من التاريخ كانت فيها حروب وكادت أن تخطئ. لكنهم تعايشوا واستمروا. نخطئ حين نعتبرها (أسطورة حالمة من التعايش المثالي)، فإن المقابل أن اليمين المتطرف سيشيطنها. لا هذا ولا ذاك. لكنه تعايش طبيعي بين اليهود والمسيحيين والمسلمين وغير المؤمنين. عاش العرب والأمازيغ وغيرهم معًا في الأندلس. كان الأمر هكذا، كان حقيقة.
النساء. صوت جمعي يحرك الأحداث:
“الضوء الذي كنا عليه” رواية تؤرخها مجموعة النساء. رواية، مكتوبة بضمير المتكلم وبصيغة الجمع المؤنث، تخرج عن كليشيهات النسوية التي تعود إلى القرن التاسع عشر وتلقي الضوء على التراث القديم لنساء الأندلس “حقا، ومن يحمل هم الحروب أكثر من النساء؟”
ليس من الشائع إعطاء صوت للنساء في الأدب الأندلسي. وعلى عكس ما يُعتقد، كان لهن دور نشط للغاية. ما فعله مانويل هو إزالة الحجاب من الخفاء المزدوج. الأندلس، من ناحية، ونساء الأندلس من ناحية أخرى. نساء العوام – الحرائر والإماء- طورن المهن بجميع أنواعها. تعلمن وعلمن القراءة والكتابة والترجمة وكتابة القصائد وعزف العود. كن الناقلات الحقيقيات للثقافات. فلا يمكنك أن تسجن الإرث الثقافي فلا يمكنك مثلا أن تسجن طريقة النساء مثلا في سقي زهور القرنفل، ولا يمكنك أن تسجن طريقة صنع الحلوى. لقد حافظن على هذا من جيل إلى جيل. أما أمهات الخلفاء، فهن اللائي تولين أمر السلطة حقًا.
ابن حزم وطوق الحمامة:
أرى أنه يجب أن تبدأ جميع كتب اللغة والأدب الإسبانية بـ “طوق الحمامة” لابن حزم. إنه عمل رئيس، فهو أعظم معاهدة حب كتبها أحد أكبر المفكرين في شبه الجزيرة. لأن ما حدث لابن حزم هو أنه بالإضافة إلى كونه كاتبًا وفقيهًا وعالمًا فلكيًا… كان ناشطا سياسيا ووزيرا في 1023م. وبالتالي كان معرضا دائمًا للاضطهاد والنفي من قبل من هم في عصره، واستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى بُرِّئَت ساحته. دافع عن استعادة نظام الأمويين عندما وصل الطغاة الآخرون. حُبس ونُفي. ويمر اليوم ألف عام منذ أن كتب طوق الحمامة. فكان ابن حزم، من أعظم المثقفين في قرطبة، شخصا أساسيا في تاريخ قرطبة.. تبدأ الرواية بميلاد بطليها: الأول ابن حزم والثاني يدعى “لا بالوما” (الحمامة) وهو شخصية ثورية. سيكونان في صفحات الرواية أخين وصديقين ومحبين وعدوين وغريبين.
الحب دائما:
يقول المؤلف: الحب هو الثابت الآخر. بالنسبة لي هو استعارة أساسية. دمرت الحرب مدينة الزهراء، التي بُنيت بالحب. على الرغم من أنها استعارة رمزية، إلا أن مدينة الزهراء بنيت من قِبَل طاغية بدافع الطموح، ودُمرت بدافع الكراهية. وبقيت في ذاكرتنا بدافع الحب. لذا نعم، الحب هو تبرير دائم في جميع رواياتي لأجل الانتصار في النهاية. فعلى الرغم من الهزيمة الظاهرية، فإن اليوتوبيا تستحق الكفاح من أجلها. في الواقع، الخسارة الحقيقية هي في التخلي عن هذا الكفاح.
ازدراء الأندلس: بغير قصد، تزامن إصدار الكتاب مع تصريحات رئيسة مجتمع مدريد دياز أيوسو* بازدراء الأندلس ونشأة مدريد (مجريط التي بناها الأندلسيون) وكأنه ليس جزءًا من تاريخ إسبانيا.
يرد مانويل: تعرف دياز أيوسو جيدًا أن الأندلس جزء من تاريخ شبه الجزيرة. فلم تكن إسبانيا موجودة خلال العصر الروماني، ولم تكن إسبانيا موجودة خلال عصور القوط الغربيين، ناهيك عن التاريخ البيزنطي. ويجب أن تستند استجابتنا لازدرائهم إلى العقل والاحترام. إذا كانوا يريدون إرسال رسالة كراهية، فيجب أن يكون ردنا هو الحب. إذا كانوا يريدون إرسال رسالة جهل، فيجب أن تكون إجابتنا هي العقل. هنا في قرطبة توجد الآن حركة أخرى تحاول وضع قرطبة ما قبل الإسلام كمدينة رائعة. ويبدو أنه جيد جدًا بالنسبة لي. أولئك منا الذين يعتبرون أنفسنا أندلسيين لأننا نفهم أن الأندلس هي مزيج من الثقافات لا يمكن أن ينكروا أي طبقة فرعية فيها.
*********
قالوا عن الرواية:
“رواية تعزز لم الشمل مع الذاكرة الأندلسية الشعبية والعاطفية، لتعرفنا بأننا أوصياء على إرث ساد عبر القرون “.
– ماتيلدا كابيللو
“الضوء الذي كنا محجوبًا منذ ألف عام، يشق طريقه اليوم بفضل المؤلف الذي يحب بشدة هذا الضوء، الضوء الذي لا يمكن لأحد أن يطفئه.”
-هاشم كابريرا
المؤلف: أنطونيو مانويل أكاديمي وناشط قومي أندلسي اشتهر في عالمنا العربي بفيديو يعيد فيه ذاكرة الأندلس لطلابه في إسبانيا.
جمع مانويل مع التدريس النشاط الاجتماعي والثقافي والسياسي. وهو حاصل على دكتوراه في القانون. وهو أحد مؤسسي اتحاد الأندلس ورئيسه وراعي مؤسسة “بلاس إنفانتي”.
لديه عدة مؤلفات وروايات منها “فلامنكو” و”البصمة الموريسكية”.
*ملحوظة: إيزابيل دياز أيوسو هي سياسية إسبانية تشغل منصب رئيس مجتمع مدريد منذ عام 2019، في حزب الشعب.