رؤى

في ذكرى يوليو: إشكاليات الماضي المتجددة

أتت الذكرى السبعون لثورة 23 يوليو المصرية لتؤكد مرة أخرى وجديدة، ولا أعتقد على الإطلاق أنها ستكون الأخيرة، أن إشكاليات وصراعات وقضايا الماضي في التاريخ المصري المعاصر خلال الفترة المنصرمة في ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة ما تبلور منها في شكل خلافات واختلافات وتباينات في تفسير الأحداث والتطورات والقرارات والتفاعلات التاريخية المختلفة، وما انعكس فيها من تناقضات بين تيارات مجتمعية ذات مصالح اقتصادية واجتماعية متعددة وخلفيات ومرجعيات ثقافية متشعبة ومعقدة، وما انتهت إليه من تبلور في ما بدا أنه معارك على الأصعدة الأيديولوجية والثقافية والفكرية، لا تزال قائمة، وليس فقط أن أيا منها لم يحسم بعد ولم يقترب حتى من نقطة الحسم أو التسوية، أيا كانت طبيعتها وصورتها ومكوناتها، بل إن كلا منها صار أكثر تعقيدا عما قبل، كما أنها تضاعفت كثيرا بمرور الزمن حيث تشعب وتفرع منها إشكاليات وصراعات وقضايا جديدة، ربما لم تكن موجودة في جذور نشأة تلك الصراعات الأصلية في زمانها الأول.

ولا يتسع المجال هنا بالطبع للحديث عن كافة تلك الإشكاليات والصراعات والقضايا أو حتى معظمها، فحتى إذا اكتفينا بمجرد السرد لتلك الصراعات فلن تكفي المساحة المتاحة هنا لذكر عناوينها ورءوس موضوعاتها. إلا أننا سنحاول في حدود ما يسمح به المكان أن نلقي بعض الضوء على واحدة من أهم تلك الإشكاليات التي لا تكاد تخبو جذوتها أو تقترب من ذلك حتى تندلع من جديد، وسوف أعمد أيضا إلى التركيز هنا على واحد من تلك الإشكاليات التي ترتبط بحدث 23 يوليو 1952، ذاته وتحولاته اللاحقة، باعتبار أننا لا نزال في مرحلة إحياء الذكرى السبعين لثورة يوليو.

وهذا الصراع هو الصراع الخاص بالتوصيف للفترة المستمرة منذ خروج قطاعات من الجيش المصري تحت قيادة التنظيم السري لحركة الضباط الأحرار للإطاحة بالنظام السياسي الملكي القائم في مصر في ذلك الوقت بمكوناته المختلفة في ليلة 23 يوليو 1952، وحتى وفاة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، فلا يوجد حتى اللحظة أي إجماع أو حتى شبه إجماع على ذلك التوصيف بالرغم من مرور سبعة عقود على ذلك الحدث.

مجلس قيادة ثورة يوليو
مجلس قيادة ثورة يوليو

 فالضباط الأحرار أنفسهم أطلقوا على تحركهم في تلك الليلة في البداية تسمية “حركة الجيش المباركة”، إلا أنه سرعان ما أطلق عدد من ساسة ذلك الزمان، بالإضافة إلى عدد من المثقفين والمفكرين والكتاب والصحافيين والإعلاميين، تسمية “الثورة” على ما حدث، وهو ما تزامن مع لجوء عدد من أعضاء “مجلس القيادة” إلى تبني مسمى “الثورة”، حيث تحول اسمه بالتالي إلى “مجلس قيادة الثورة”، ثم استمرت التسمية ملتصقة بما حدث من تطورات منذ تلك اللحظة التاريخية الفارقة وحتى الآن. وفي وقت لاحق، وتحديدا عند النقاشات الخاصة بصياغة “ميثاق العمل الوطني” في عام 1962، طرأ تطور جديد في الصياغة من قبل معسكر يوليو، حيث بدأت صياغة أن خروج الضباط الأحرار في ليلة 23 يوليو 1952، كان تحركا باعتبار الجيش مثل “طليعة الشعب” في التحرك الثوري، وهنا كان واضحا الاستعارة القوية من صياغة المفكر الشيوعي والزعيم السوفيتي “فلاديمير اليتش أوليانوف” المعروف بـ “لينين” حول “الطليعة الثورية”، وإن اختلفت الطليعة في الحالة السوفيتية، وهي “المحترفين الثوريين”، عن الحالة المصرية حيث الطليعة هي “تنظيم الضباط الأحرار”.

وعلى جانب آخر، فهناك قوى فكرية واجتماعية وسياسية رفضت في أي مرحلة منح صفة “الثورة” سواء لحدث 23 يوليو أو لما مر به من تحولات لاحقة، ومن ضمن تلك القوى تبرز بالتأكيد قوى التيارات والأحزاب السياسية التقليدية في فترة ما قبل يوليو 1952، يتساوى في ذلك حزب الأغلبية (حزب الوفد) وأحزاب الأقلية، على كثرتها وتنوعها، خاصة ما تفرع من أحزاب نتجت عن انشقاقات عن حزب الوفد ما بين “حزب الأحرار الدستوريين” و”الحزب السعدي” و”الكتلة الوفدية”. فهؤلاء تمسكوا بأن ما حدث هو مجرد “انقلاب عسكري” ورفضوا بشكل مطلق وغير مشروط القبول بمسمى “الثورة”، ووضعوا ما حدث بعد 23 يوليو 1952، في وضع المقارنة، بل والمفارقة، مع ثورة 1919، الشعبية.. وذلك للبرهنة على صحة موقفهم.

ثورة 1919
ثورة 1919

وعلى جانب ثالث، فإن هناك قوى قبلت بتسمية “الثورة”، بل ربما تبنتها قبل تبني هذه المقولة من قبل بعض قيادات ورموز تنظيم “الضباط الأحرار”، ولكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك، بعد وقوع الصدام بينها وبين القيادة الناصرية، ويسري ذلك على سبيل المثال على التيار العام لجماعة “الإخوان المسلمين”، باستثناء قيادات وشخصيات وكوادر خرجت عن الجماعة وانضمت إلى ركب “الثورة” وارتبطت بها ومن ثم استمرت في دعمها حتى النهاية، والعديد من التيارات الإسلامية الأخرى القائمة في مصر في ذلك الوقت. حيث كان للجماعة، طبقا لشهادات الكثير من قيادات وكوادر من ثوار يوليو ومن قيادات وكوادر الجماعة – عدد من الأدوار والتكليفات التي قامت بها بطلب من وتنسيق مع تنظيم “الضباط الأحرار” في أحداث ليلة 23 يوليو، وفي المرحلة التالية لها مباشرة.

وعلى جانب رابع، فإن قوى أخرى رفضت لفترة ممتدة زمنيا نسبيا القبول بمسمى “الثورة” من الأساس، وأمضت فترة طويلة متمسكة باعتباره “انقلابا عسكريا”، ولم تبدأ في مراجعة مواقفها سوى عبر صدور قرار بحجم تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، والنجاح في التصدي للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي في ديسمبر من نفس العام، وتندرج ضمن هذه القوى الكثير من التيارات اليسارية، خاصة الشيوعية، المصرية آنذاك، والتي كان من المفارقات أن بعض تلك التنظيمات لعبت أدوارا ونفذت تكليفات في التحضير لحدث ليلة 23 يوليو 1952، طبقاً لشهادات الكثير من قيادات وكوادر من ثوار يوليو ومن القيادات والكوادر الشيوعية المصرية، بطلب من وتنسيق مع تنظيم “الضباط الأحرار”، وفقط بعد تأميم قناة السويس وصد العدوان الثلاثي قبلت تلك التنظيمات اليسارية بإطلاق تسمية “الثورة”، بل وصارت تتحمس لها. وكلما كانت ثورة يوليو تمضي أكثر في مسيرة إنجاز مهام التحولات الاقتصادية والاجتماعية، كلما زاد تأكيد تلك التيارات والتنظيمات على صفة “الثورة” وتلازمها مع تلك التحولات.

ثورة يوليو

إلا أن الهام في سياق الموضوع الذي نتناوله هنا هو كشف حقيقة أن هذا الجدل الدائر والمستمر منذ عقود على التسمية يقوم على افتراض غير صحيح أصلا، فالافتراض هو أن تعبير “الثورة” تعبير إيجابي في حد ذاته بغض النظر عن أي اعتبار آخر، إلا أن الحقيقة هي خلاف ذلك، فتعبير “ثورة” لا يزيد عن كونه مفهوما له تعريف خاص به في العلوم السياسية، وما يندرج ضمن هذا التعريف يطلق عليه تسمية “ثورة” وما لا ينطبق عليه التعريف يخرج من سياق تلك التسمية، وبالتالي فمصطلح “ثورة” ليس إيجابيا أو سلبيا في حد ذاته، بل مجرد توصيف لحالة معينة تقع في نطاق علم السياسة، بدون أي أحكام ذات خلفية قيمية وبدون أي تحيزات أيديولوجية مسبقة.

وللبرهنة على أن تعبير “ثورة” ليس إيجابيا أو سلبيا في حد ذاته، نذكر أنه على مدار سبعة عقود ونصف من العداء الأمريكي والغربي لثورة أكتوبر 1917، البلشفية في روسيا، فإنه لا الولايات المتحدة ولا الدول الرأسمالية الغربية الأخرى أنكرت على تحرك البلشفيك في روسيا صفة “الثورة”، برغم العداء والتناقض الأيديولوجي بين الطرفين، ولكنها ربطت وصف الثورة بنعوت أخرى سلبية لا تنكر عليها صفة “الثورة” ولكنها تلحقها بأوصاف تتهمها بالشمولية وبالتدميرية وغير ذلك من أوصاف سوداوية. وانطبق الأمر نفسه على التعامل الأمريكي والغربي مع “الثورة الماوية” في الصين في أكتوبر 1949، خلال سنوات العداء الغربي مع صين “ماو” وهو الأمر الذي استمر حتى بدأ التقارب الغربي الصيني في مطلع عقد السبعينيات من القرن العشرين. كذلك يسري نفس الاعتبار على الموقف الأمريكي إزاء ثورة فبراير 1979، الإيرانية.. فعلى الرغم من العداء المتواصل بين غالبية الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ انتصار الثورة الإيرانية وبين ما تمخّض عن تلك الثورة من نظام سياسي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تنكر وصف “الثورة” أو تسعى لنزعها عن الثورة الإيرانية، ولكنها على الأصعدة الرسمية والإعلامية وغيرها، تستخدم مصطلح “الثورة” ولكنها أيضا تربطه بصفات أخرى سلبية في حالة التعامل مع إيران، كما كان الحال في التعامل من قبل مع الثورة البلشفية في روسيا وكان أيضا الأمر نفسه يسري في حالة التعامل الغربي مع الثورة الماوية في الصين الشعبية.

وما أراه الخلاصة هنا هو أن هذا الصراع القديم المتجدد حول توصيف ما جرى في 23 يوليو وتطوراته وتحولاته اللاحقة هو في جوهره أمر لا يغير كثيرا في ما دار في الماضي ولا في واقع الحال ولا في ما هو قادم من مستقبل، كما أن إطلاق وصف معين على ما حدث ليس في حد ذاته حكما قيميا عليه أو تعبيرا عن تحيز مسبق، بل المهم هو ما تحقق من نتائج، إيجابية كانت أم سلبية، وكيفية التعامل معها، وما دار بين الثوابت والمتغيرات من تفاعلات جدلية، والحصيلة التي نتجت عن كل ذلك على أرض الواقع وعلى الحياة المعاشة لجموع البشر بهمومهم وآمالهم وتحدياتهم وأحلامهم وإحباطاتهم وتطلعاتهم على الأصعدة الفردية والجمعية.

د.وليد محمود عبد الناصر

كاتب ومفكر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock