ضمن محاولتنا في تفكيك الإشكالية التي يُثيرها مصطلح “الاستخلاف” في الفكر العربي والإسلامي، من أجل إعادة تركيبها والوقوف على ما يحمله المفهوم من دلالة، كخطوة في بناء مفهوم إسلامي حول الاستخلاف – لابد من التعاطي مع مسألة “الخلق البشري” لأجل تبيان الفارق المنهجي بينها وبين “الاستخلاف الإنساني” ومن ثم وضع اليد على مكمن الخطأ الحاصل في كثير من الأطروحات التي حاولت الإجابة على التساؤل: آدم خليفة لمن؟
وإذا كان الخلط بين اسمي الفاعل “خالق” و”جاعل” في قوله سبحانه: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30]، وفي قوله تعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ” [ص: 71].. هذا الخلط هو ما أدى بأطروحات الكثيرين من السلف وتابعيهم من الخلف، إلى القول بأن الإنسان خليفة الله في الأرض؛ وهو قول – في اعتقادنا– غير صحيح.. فإن الخلط بين لفظتي “بشر” و”إنسان” والتعامل معهما على أنهما يؤديان إلى المعنى نفسه، كان قد ساهم في تأكيد الاستنتاج الخاطئ إياه. ولعل هذا ما يتأكد إذا لاحظنا دلالة كل من اللفظتين في آيات الذكر الحكيم..
معنى البشر
فمن جهة البشر، فإن اللفظ يدل في اللسان العربي على ظهور الشيء مع حُسن وجمال، والبشرة هي ظاهر جلد الإنسان، وسُمي البشر بشرًا لظهورهم. وقد ورد مصطلح البشر في القرآن الكريم عددًا من المرات، وصل إلى سبع وثلاثين مرة، ليؤشر إلى “الوجود المادي لكائن حي له صفة الحياة”. وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه: “قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ” [آل عمران: 47] وفي قوله تعالى: “فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا” [مريم: 17] وهنا لنا أن نلاحظ أن مريم “الصديقة” قد رأت “روح الله” في صورة بشر بحت (كائن حي من جنس البشر) وليس في صورة مَلَك أو جن، ولذلك قال: “سَوِيًّا”. وفي قوله سبحانه وتعالى: “مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ” [المؤمنون: 33] يبدو التأكيد على أن الطعام والشراب هما من صفات البشر، وأن الرُسُل الذين أرسلهم الله كانوا من البشر، يأكلون ويشربون كما تأكل بقية الناس وتشرب.
أما في قوله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ” [الروم: 20] لنا أن نلاحظ أن الانتشار في الأرض كان قد حصل في مرحلة البشر، قبل مرحلة “الاصطفاء الإلهي” لآدم، وقبل “نفخة الروح” أي قبل مرحلة “الأنسنة”. ثم لنا أيضًا أن نتأمل كيف وردت الأداتان “ثُمَّ إِذَا”، بين “خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ” وبين “أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ” للدلالة على الفترة الزمنية بين المرحلتين، مرحلة الخلق ومرحلة الانتشار؛ حيث “ثم” تدل على التراتب مع التراخي، في حين أن “إذا” هي ظرف لما يستقبل من الزمن، وورودهما معًا إنما يؤشر إلى طول الفترة الزمنية بين الخلق والانتشار.
دلالة الإنسان
ومن جهة الإنسان، فالأصل فيه من “أنسن” وتعني في اللسان العربي ظهور الشيء، وكل شيء خالف طريقة التوحش ومنه الإنس، أي أنس الإنسان بالشيء إذا لم يستوحش منه. هذا عن المفرد. أما صيغة الجمع “الناس” فقد جاءت من نوس وهو في اللسان العربي أصل يدل على اضطراب وتذبذب، وناس الشيء تذبذب؛ وهو ما يشير إلى الانتقال من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، حيث يُقال نُسْت الإبل سُقْتُها؛ وهو ما يشير إلى أن الإنسان هو البشر غير المتوحش، وأنه عندما اجتمع مع غيره من الناس، في مجتمع، فقد تولد الاضطراب والتذبذب في مناحي الحياة المختلفة، أي تولدت التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وفي آيات الذكر الحكيم، وردت صيغة المفرد “الإنسان” خمس وستين مرة، في حين ورد لفظ “إنسيًا” مرة واحدة، في قوله سبحانه وتعالى: “فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا” [مريم: 26] أما صيغة الجمع “الناس” فقد وردت في عدد من المرات وصل إلى 240 مرة، وهو ما يدل على مدى اتساع الدورة الدلالية للفظ في القرآن الكريم. أما مفردة “الإنس الدالة على جنس الإنسان فقد وردت ثمان عشرة مرة، في حين وردت صيغة “أناس” الدالة على جماعة من الناس خمس مرات، ومنها قوله سبحانه: “يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا” [الإسراء: 71]. ثم تأتي لفظة “أناسي” التي لم ترد سوى مرة واحدة، في قوله تعالى: “وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ٭ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا” [الفرقان: 48-49].
وعبر تأمل هذه المفردات في سياق ورودها ضمن آيات الذكر الحكيم، يمكن ملاحظة أنها جاءت كصيغ للكائن العاقل. إذ، دائمًا ما يوجه الخطاب القرآني من خلال صيغة “يأيها الْإِنسَانُ”، كما في قوله سبحانه وتعالى: “يَأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ” [الانفطار: 6] وكذا عبر صيغة “يَأَيُّهَا النَّاسُ” كما في قوله سبحانه: “يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة: 21]، وكما في قوله تعالى: “يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا” [النساء: 174].. ولم تأت أبدًا صيغة “يا أيها البشر”.
التمييز القرآني
يعني هذا، في ما يعنيه، أن الخطاب القرآني يتم فيه التمييز بين الخلق البشري وبين الاستخلاف الإنساني؛ حيث يرد “البشر” من منظور الوصف للدلالة على الصفات، أما الإنسان ـ كمفرد وجماعة ومجموع ـ فيأتي دائمًا كنقطة ارتكاز رئيسة لـ”مناط التكليف”. وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه وتعالى: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا” [الأحقاف: 15]، وفي قوله سبحانه: “يَأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ” [الانشقاق: 6] وكذا في قوله تعالى: “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 97]
في هذا الإطار، إطار التمييز بين الخلق البشري والاستخلاف الإنساني، لنا أن نلاحظ آيات الذكر الحكيم التي يتم فيها تفكيك الوحدة “الزمانية ـ المكانية” لمراحل الخلق وصولًا إلى الاستخلاف. يقول سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ” [الأنعام: 2]. وهنا تنص الآية على “الأجل” كعنصر توقيت زماني يمتد ما بين الطين وبين الخلق البشري؛ كما تنص أيضًا على “الأجل المسمى” كعنصر توقيت زماني “معلوم عند الله” ما بين الخلق البشري والاستخلاف الإنساني.. حيث يقول سبحانه: “يَأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ٭ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ٭ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ” [الانفطار: 6-8].
فهناك، إذًا “أَجَلٌ مُسَمًّى”، وفيه تسوية ثم اعتدال؛ والتسوية تنصرف إلى معنى “التكوين”، إلا أن اقترانها بالاعتدال يؤشر إلى مضمون الشكل، أي السابق على الاعتدال؛ وهو ما يؤشر ليس، فقط، إلى أن التسوية والاعتدال هنا لهما معان “مادية” وليست اجتماعية؛ ولكن أيضًا على أن الآية تتضمن التأكيد على “تعدد الصور” الإنسانية بمؤثرات التكوين الطبيعي الموضوعي. وهذا يختلف قطعًا عن الاستنتاج الدارويني، إذ إن “فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ” تعني التعدد في التركيب تبعًا للمشيئة الإلهية.
وفي الإطار نفسه تتأكد ملاحظة أن الملائكة لم تتساءل عن عملية خلق البشر، أي عن المخلوق، أو عن أفعاله، مع ملاحظة أنهم امتثلوا لأمر الله في السجود لآدم؛ وذلك على عكس تساؤلهم بالنسبة إلى عملية “جعل آدم خليفة”. هذا فضلًا عن إبليس الذي يُعلن عن استكباره في لحظة الاستخلاف وليس في مبتدأ الخلق البشري. وهو ما يتأكد عبر قوله تعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ٭ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٭ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ” [ص: 71-74]. وهنا لنا أن نلاحظ أن استكبار إبليس جاء بعد “التسوية” و”نفخة الروح” أي في اللحظة التي أصبح فيها آدم يختلف عن ما كانت عليه “البشرية” من قبله وبالتحديد في اللحظة التي أصبح فيها آدم جاهزًا للاستخلاف.
وهكذا، وعبر التمييز بين الخلق البشري والاستخلاف الإنساني، يتأكد لدينا عدم صحة المقولة التي انسابت من بين يدي الكثيرين من السلف، ومن سار على دربهم من الخلف، نعني مقولة “آدم خليفة الله على الأرض”. إذ إن آدم عليه السلام، بعد التسوية والاصطفاء ونفخة الروح، إضافة إلى الأسماء التي تعلمها، أصبح يختلف عن البشرية من قبله؛ أي أصبح خليفة لمن كان قبله من البشر من نفس جنسه، ليؤدي كـ”إنسان” مهمته التي استخلفه الله سبحانه وتعالى من أجلها.