“أنتم لا تفاوضونني بشأن القدس، وإنما تفاوضون السعوديين والمصريين والسوريين والباكستانيين والمغاربة وكل العرب والمسلمين في كل مكان”..
بهذه الكلمات، التي كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات قد قالها، تعقيبًا على حديث الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بشان القدس في قمة “كامب دافيد 2000”.. لم يتشدد عرفات كما حاول الإسرائيليون أن يصوروه، ولم يرفض رفضًا غير مبرر ما عرضه عليه إيهود باراك، أو ما تضمنته المقترحات الأمريكية في شأن المدينة المقدسة؛ بل ربما تكون هذه هي المرة الأولى، بعد أكثر من سبع سنوات من التفاوض، بعد اتفاق أوسلو1993، التي يضع فيها المفاوض الفلسطيني الأمور في نصابها الصحيح.
العمق الاستراتيجي
ولعل قولنا الأخير هذا لا ينبني فقط على تمسك عرفات بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني؛ ولكن أيضا لاستناده إلى العمق الاستراتيجي العربي والإسلامي في ما يتعلق بمسألة القدس، وتحويله إياها إلى رمز عالمي؛ لا يمكن التغاضي عن الحقوق العربية والإسلامية، والمسيحية، فيها.
أضف إلى ذلك، الاستغلال الجيد للوقت من جانب عرفات، والمفاوض الفلسطيني عموما.. وربما كانت هناك لدى الجانب الفلسطيني قناعة مفادها إن أي اتفاق سوف يتم التوصل إليه مع الجانب الإسرائيلي لن يفضي إلى تحقيق إنجاز سياسي، خاصة مع بدء انشغال الأمريكيين بانتخابات الرئاسة الأمريكية؛ ناهيك عن عدم وجود أية صلاحيات رئاسية في يد بيل كلينتون؛ حتى أن الموازنة الأمريكية التي كانت ستقر في فبراير 2000، لم يكن كلينتون ليستطيع تقرير بنودها.
وفي إطار تحويل مسألة القدس إلى رمز عالمي، والاستناد إلى العمق الاستراتيجي الخاص بها، كانت كامب دافيد 2000، بمثابة ذروة للصراع بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وقمة الصدام بين أطروحتيهما، وذلك من منظور أن أي اتفاق في كامب دافيد لن يمكن تعويضه لاحقا.
وهنا تساؤل مهم يطرح نفسه، ويتمحور حول مستقبل القدس؛ خاصة وأن إسرائيل حاولت استثمار نتائج قمة كامب دافيد تلك، في اتجاه تأجيل ملف القدس وإبقائه بعيدًا بشكل مستمر وطوال سنوات عن آية مفاوضات، بما يشير إلى أن الاحتمال الأكثر رجحانًا هو تأجيل هذه القضية سنوات أخرى طويلة، خاصة في ظل كافة ما نراه من ظروف وملابسات تمر بها المنطقة.. فماذا يعني ذلك؟
اتجاه الأمر الواقع
إن هذا الاتجاه الذي اختطته إسرائيل طوال سنوات مضت، هو اتجاه فرض الأمر الواقع، وهو ما ستحاول ترسيخه في السنوات القادمة؛ وهذا هو الأسوأ، ويعني أن التصور العربي والإسلامي، حول وضعية القدس تلك، أتها وضعية مؤقتة، وأن القدس لابد أن تعود يومًا إلى أهلها – لن يتحقق أبدا.
وهذا ما يشير إليه ويؤكده أن اتفاقية أوسلو13 سبتمبر 1993، لم تحسم الجدل القانوني بالنسبة إلى القدس؛ بل على العكس أضافت إلى وضع القدس غموضا متزايدا.
فهذه الاتفاقية، الموقعة من الجانب الفلسطيني الذي كان يفترض أن يكون آخر الموقعين على اتفاقية سلام مع إسرائيل، لم يرد ذكر القدس فيها سوى ذكرًا هامشيًا، في البند الثالث من المادة الخامسة، التي تحدثت عن مفاوضات الوضع الدائم: “من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، والمسائل الأخرى ذات الاهتمام المشترك”.
وإذا لاحظنا كيف جاءت القدس ضمن القضايا “المتبقية”، التي كان يفترض أن تكون هي القضايا الأهم؛ ولاحظنا أيضا كيف أن أسوأ ما في اتفاقية أوسلو، أن البحث في مصير القدس قد تأجل بموجبها ثلاث سنوات؛ ولاحظنا كذلك كيف أن هذه السنوات الثلاث، كان قد أعقبها تمديدا لسنوات ثلاث أخرى؛ ثم لاحظنا أخيرًا، كيف أن إسرائيل كانت قد تمكنت خلال هذه السنوات الست (سنوات الانتظار الثلاث، وسنوات التمديد الثلاث) من تغيير معالم القدس والضفة الغربية، بشكل لم تتمكن منه في سنوات “المجابهة”..
إذا لاحظنا هذا التوجه الإسرائيلي المتتالي الحلقات، وصولًا إلى الوضع الراهن؛ يتأكد لدينا ما يشير إلى أن المحاولة الإسرائيلية، الواضحة للعيان في ممارسات تأجيل ملف القدس، بعيدًا عن المفاوضات، ليست سوى فرض للأمر الواقع.
والأمر الواقع لا يعني فقط أن يتم على الأرض، تثبيت نص المادة الأولى من القانون الذي وافق عليه الكنيست الإسرائيلي30 يوليو 1980، النص الذي فحواه: “القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل”؛.. ولا يعني أن غاية ما يمكن أن يحصل عليه الجانب الفلسطيني، من جراء الموافقة المستمرة على التأجيل المتتالي لملف القدس، هو رفع العلم الفلسطيني فوق المسجد الأقصى، أو إنشاء بلديات في أحياء القدس الشرقية (وليس بلدية عربية للقدس الشرقية).. ولكنه إضافة إلى هذا وذلك يعني إبقاء التصور العربي والإسلامي، في عودة القدس إلى أهلها، عند حدود “التصور”.
فهل هذا هو مصير القدس(؟!).
إشكالية المستقبل
إذا حاولنا مقاربة المستقبل، ذلك: “الغائب من الزمن القادم بعد حين”، انطلاقًا من الواقع الراهن بكافة ظروفه وملابساته، فإن أول ما نواجهه في هذا الشأن ما يمكن أن نطلق عليه “خبرة المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل”.
هنا، يمكن ملاحظة أن اتفاقية أوسلو، وما تبعها من اتفاقات، لم تعلق عملية الاستيطان أو محاولات تهويد المدينة المقدسة؛ ولهذا أسرعت الحكومات الإسرائيلية إلى تكثيف الاستيطان في القدس الشرقية، ومصادرة الأراضي العربية، وطرد المواطنين العرب منها.. بل، فصلت البعد الديني للمدينة عن غيره من أبعاد القضية؛ فولت الفاتيكان على الكنائس، وولت الأردن على الأماكن المقدسة الإسلامية.
وهي، بهذا، طورت الواقع في المدينة، حتى إذا ما حان وقت التفاوض –إذا حان– لم يجد الوفدان الإسرائيلي والفلسطيني ما يتفاوضان حوله.
بل إن مما له دلالة في هذا الإطار، مقولة شمعون بيريز الشهيرة، أمام الكنيست الإسرائيلي في 7 يونيو 1994؛ حيث قال: “القدس لن تقسم، ولن نوافق على أي تقسيم للقدس. القدس لن تكون عاصمة لكيانين، وإنما عاصمة حكومة (دولة) إسرائيل. القدس لن تكون برلين، لن يقام فيها سور ولن تجزأ. سوف تبقى موحدة وفق الخريطة التي صادق عليها الكنيست، وتحت سيادة إسرائيلية. لن تكون جزءًا من الأتونوميا (الحكم الذاتي)، ومؤسسات الأتونوميا لن تدار في القدس. هذا هو موقفنا، وهذا هو هدف الصراع”.
وقد ترجم المسئولون الإسرائيليون مقولة بيريز هذه، في شتى القوانين الإدارية والملاحقات. وكان من أهمها: قانون تطبيق الاتفاق بشان قطاع غزة ومنطقة أريحا وهو القانون المعروف بـ”تقييد النشاط” عام 1994، وقد صدر بعد التوقيع على اتفاقية القاهرة، وبموجبه يحظر على السلطة الفلسطينية فتح ممثلية لها، أو الدعوة إلى اجتماع عام في إسرائيل إلا بعد الحصول على تصريح خطي من الحكومة الإسرائيلية.
وهكذا، ابتدأت عمليات الملاحقة من قبل سلطات الأمن الإسرائيلية لمؤسسات فلسطينية تعمل في القدس، بحجة أن لها طابع السلطة الفلسطينية وهذا مخالف لاتفاقية القاهرة. وقد اعتبرت إسرائيل ثلاث عشرة مؤسسة فلسطينية على لائحة السلطة من بينها: بيت الشرق، جامعة القدس، وزارة الأوقاف والمقدسات، مؤسسة الأرض والمياه.. إلخ.
ولا تعليق لنا هنا سوى أن من يطلع على سيل القرارات الصادرة عن المؤتمرات واللجان والاجتماعات في العواصم العربية من أجل القدس، خلال العقدين الأخيرين فقط، ناهيك عن الاستراتيجيات المكتوبة والمعلنة، لابد وأن يصاب بالدوار.
فكيف يمكن التوفيق بين هذا السيل من الكلام، وبين ذاك الشح في العطاء الحقيقي من أجل القدس: ماديًا، ونضاليًا، وعملًا يوميًا؟!