ثقافة

الرؤية الاستعلائية للتراث بين الفولكلور والدين.. قراءة في كتاب

مقدمة: في كتابه “تراث الاستعلاء بين الفولكلور والمجال الديني” الحائز علي جائزة الشيخ زايد للكتاب 2021، والصادر عن مؤسسة بتانة عام 2019، بالقاهرة – حاول الكاتب الدكتور سعيد المصري أن يقدم رؤية سوسيولوجية تحليلية عميقة وناقدة في نفس الوقت لظاهرة الاستعلاء داخل التراث الثقافي، وذلك من خلال تأكيده على أن ملامح النظرة الاستعلائية للتراث تبلورت داخل التراث الشعبي الشفهي، ويلفت الكاتب الانتباه إلى أن التمييز الثقافي يعتبر أوضح صور هذا الاستعلاء، وهذا التمييز بين البشر يختلف باختلاف خصائصهم وانتماءاتهم، ومن هنا يحدث التعالي على الآخرين بمقتضى اختلافهم وتباين مذاهبهم.

ويشير المؤلف إلى حقيقة مهمة وهي أن التمييز الثقافي يصل إلى ذروته ومنتهاه في حالة الاستعلاء الديني. ويضطلع بهذا الدور حركات دينية تأصيلية من قلب التراث الديني، ويُفعّل في الواقع من خلال الوصاية الدينية.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا ينقسم إلى مقدمة وسبعة فصول.. في المقدمة يحاول المؤلف إلقاء الضوء على حقيقة تبدو على جانب كبير من الأهمية، وهي أن الاهتمام بالتراث الشعبي في علمنا العربي يتمحور ويتمركز حول التراث بما يعني الانغلاق عليه، إذ يمثل – وفق هذه النظرة – كيان الأمة النابض بالحياة.. وتسمى هذه النظرة بتقديس التراث تقديسا أعمى. وفي مقابل تلك النظرة توجد رؤية عكسية تهمل التراث؛ وتزدري كل ما يتضمنه الموروث الشعبي من مضامين ودلالات.. وفي مقابل هاتين النظرتين  توجد رؤية ثالثة محايدة تعتمد على تأصيل المنهج العلمي الموضوعي في دراسة التراث الشعبي، وهذه النظرة تسمى عدم الوقوع في الإدانة أو التمجيد كما يطلق عليها محمد الجوهري.

أما في الفصل الأول الذي جاء تحت عنوان التمييز الثقافي في التراث- مداخل نظرية،  فيعرض المؤلف، قراءة نظرية حول مفهوم التمييز الثقافي والمفاهيم المرتبطة به، وكذلك المداخل النظرية لتفسير صور التمييز في التراث اللامادي والثقافة المجتمعية السائدة. ثم يقدم المؤلف أبسط تعريف لمصطلح التمييز الثقافي الذي يمثل حالة من الاختلاف والتباين بين البشر في خصائصهم، ومن هنا تنشأ كل صور التفاوت الاجتماعي. ويلفت الانتباه إلى أن هذا التمييز يتحول إلى نظام عنصري مقيت على أساس لون البشرة أو العرق  أو الجنس. وكان من نتيجة هذا التمييز أن المجتمعات الإنسانية شهدت على مر التاريخ كثيرا من الصراعات الدموية. وفي هذا السياق يؤكد على أن فكرة العدالة والعدل هي من أهم المثل العليا التي تدعو إلى المساواة بين البشر.

وبناء على ذلك نشير إلى أن جوهر التمييز الثقافي له جانبان: الأول يتعلق بالبعد الثقافي للعدالة الاجتماعية أو ما يسمى ثقافة العدل، والثاني هو البعد العادل في الثقافة، وتتمثل ثقافة العدل في شيوع مبدأ التقدير والاعتبار المجتمعي.

 ويعرض المؤلف أيضا في هذا الفصل أبرز المصطلحات السوسيولوجية المرتبطة بالتمييز الثقافي والتي تتمثل في مصطلح العنصرية الثقافية  وتظهر في نسق المعتقدات المعتمد على بنية اجتماعية قائمة على ثنائية التفوق والخضوع الثقافي.

وفي ختام الفصل يتوصل المؤلف إلى استخلاصات نظرية؛ بناء عليها يتضح لنا أن التمييز الثقافي يكون قائما على تصورات نمطية ومشاعر من التعصب.. أيضا من أهم نتائج هذا الفصل هي أن دراسات التراث الشعبي العربي تميل بصفة عامة إلى دراسة التراث الايجابي الذي يمثل قاسما مشتركا بين الفئات الاجتماعية.

أما في الفصل الثاني الذي يندرج تحت عنوان صور التميز الثقافي في التراث الشعبي؛ فيشير المؤلف إلى تحليلٍ لصور التمييز الثقافي، من واقع دراسة ميدانية للتراث الشعبي المصري. حيث ركزت الدراسة على الصور النمطية السلبية المعبرة عن التمييز الثقافي عبر جميع التباينات الاجتماعية النوعية والعمرية والدينية. كما أكد هذا الفصل على حقيقة واقعية يلمسها الجميع هي وجود التمييز الثقافي بعمق لدى كثير من الفئات الاجتماعية. ويشير المؤلف إلى وجود نتائج للمسح العالمي للقيم عام 2000، حتى الآن تؤكد على وجود بعض مظاهر التمييز الثقافي. وفي هذا السياق نرى وجود إيمان عميق لدى المصريين بالتمييز وخاصة ضد المرأة. وهذه التوجهات السلبية تعكس وجود صور من التمييز تستمد مرجعيتها من منابع داخل التراث الشعبي تؤجج روح التعصب والكراهية بين البشر. وأسفرت تلك الدراسة عن وجود صور نمطية سلبية داخل التراث الشعبي المصري.. مثلا من خلال التباين بين الذكور والإناث ثمة فروق اجتماعية كبيرة بين الجنسين، فالذكورة ترمز للقوة والحيوية، والأنوثة في المقابل ترمز للضعف والاستكانة والحياء والخنوع. كما يلفت الانتباه إلى أن من أبشع صور التمييز هي النظرة الدونية للمعاق، فالتراث المصري الشعبي يفيض بصور ذهنية سلبية لا حصر لها بشأن المعاق.. ففاقد البصر يقال له الأعمى، ومن يرى بعين واحدة فهو أعور، وذو النظر الضعيف أضبش أو أعمش.

وفي نهاية هذا الفصل يتوصل المؤلف إلى نتيجة مهمة، وهي أن خريطة التمييز الثقافي في المجتمع المصري موازية لخريطة الثنائيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة، ومرتبطة أشد الارتباط.

أما فيما يتعلق بالفصل الثالث  الذي جاء بعنوان التراث الثقافي والتعليم من الفجوة الى تحديات الإدماج؛ فقد تناول فيه المؤلف طبيعة الفجوة الراهنة بين التعليم والتراث الثقافي وجذورها التاريخية، والعوامل التي ساهمت في تفاقمها؛ خاصة في ظل العلاقة الملتبسة والغامضة بين التراث الشعبي والتراث الديني.

ويؤكد المؤلف على أهمية تعزيز العلاقة بين التراث الثقافي والتعليم من خلال الدعوات المتكررة لمنظمة اليونسكو.. ويشير في هذا السياق إلى حقيقة تاريخية، وهي أن الشعوب العربية عاشت فترة من الزمن في ظل علاقة متغيرة بين التراث الثقافي والتعليم. ومن رحم الحياة البدوية والزراعية البسيطة في الماضي؛ ولدت علاقة متداخلة بين التراث الثقافي وعمليات التعلم بصورة يصعب الفصل بينهما. أيضا في هذا السياق ألقى المؤلف الضوء على جذور تحولات العلاقة بين التراث والتعليم ، وكيف أن هذه العلاقة تطورت عبر الزمن بدءا من التوحد الكامل، وصولا إلى الانفصال وتعميق الفجوة بينهما. ثم يتوصل المؤلف إلى نتيجة مفادها: أن سياسة إدماج التراث الثقافي في عملية بناء المواطن داخل مؤسسات التعليم العربية؛ مازالت غالبية الدول العربية بعيدة تماما عن العمل، بمقتضى هذا التوجه سواء داخل التعليم النظامي أو التعليم غير الرسمي.

وجاء الفصل الرابع بعنوان تراث المجتمع الإسلامي المتخيل أو استعادة الماضي.. ويلقي هذا الفصل الضوء حول فكرة المجتمع الإسلامي المتخيل، وآليات تفعيله في الواقع، وهي الفكرة التي تكمن خلف معنى الاستعلاء الديني، ثم يلي ذلك تقديم تحليل ديناميكي لمشروع حركات الإسلام السياسي، في سعيها المستمر إلى تكوين مجتمع إسلامي جديد. وطبيعة هذا المجتمع ومسارات الوصول إليه، ثم تقييم حصاد تجربة الإسلام السياسي في عملية استعادة الماضي. ولقد قدم المؤلف في هذا الفصل تحليلا سيسيولوجيا عميقا لكيفية محاولة تلك الحركات الإسلامية تشكيل وصياغة المجتمع المتخيل(Imagined society) وفي هذا السياق نشير إلى أن فكرة المجتمع الإسلامي المتخيل تنطوي على مجموعة من التصورات الذهنية المنشودة للحياة الاجتماعية والسياسية والتي تستند في الأساس إلى تأويلات محددة لنصوص دينية بعينها.

ولعل من أهم المسارات والوسائل عند حركات الإسلام السياسي للوصول إلى المجتمع المتخيل، يوجد ثلاث مسارات رئيسية، هي أولا: المسار الدعوي(السلفي) وأهم منطلقاته الدعوة الدينية، والمنهج الدعوي هو السبيل إلى بناء المجتمع.

ثانيا: المسار الإصلاحي(الإخواني) وهو السعي الحثيث إلى إحداث تغيرات مباشرة في بنية المجتمع الراهن و ثقافته ومؤسساته الاجتماعية.

ثالثا: المسار الراديكالي (الجهادي) وهو السعي العنيف الى إحداث تغيرات في بنية المجتمع الراهن من خلال السيطرة بالقوة على السكان في نطاق جغرافي محدد. ويتوصل المؤلف في الختام إلى نتيجة مهمة؛ هي وجود قواسم مشتركة بين حركات الإسلام السياسي، فيما يتعلق بالمجتمع المتخيل، لأن الكل يتفق على ضرورة بعث الأمة.

أما في ما يتعلق بالفصل الخامس الذي حمل عنوان الشرع يحكم في البادية.. دراسة لأسلمة المجتمع البدوي.. فيرصد هذا الفصل السياقات المرتبطة بتفعيل فكرة المجتمع الإسلامي المتخيل في البادية وتطور الحركة الإسلامية وتأثيرها في أسلمة المجتمع البدوي، والسيطرة على القضاء العرفي، التي نتج عنها تأسيس القضاء الشرعي كنمط من أنماط الحكم، يقوم على فض المنازعات بتطبيق نصوص من الشرع في البادية؛ تمثل تجربة عملية لاستعادة المجتمع الإسلامي المتخيل في بنية اجتماعية هشة عبر تغيرات اجتماعية وثقافية تستهدف فرض تراث الاستعلاء باسم الدين.

ويشير المؤلف إلى أن القضاء البدوي بين قبائل “أولاد علي” بمطروح– شكل مسرحا حقيقيا للحضور الإسلامي الفعال في تطبيق الشريعة الإسلامية بدلا من الأعراف البدوية.. وفي هذا السياق نشير إلى أن الشرع في نظر الكثير من البدو يمثل رمزا للعدالة والحق، لأن مصدر هذا الشرع هو الله.

وفي نهاية الفصل يتوصل المؤلف إلى نتيجة من خلال دراسة ميدانية بعنوان الصراع والقانون بين أولاد علي؛ وتنتهي الدراسة إلى أن كل التجمعات البدوية في مطروح تعترف بتجربة أولاد علي، على أن الأعراف والقوانين البدوية هي التي تحكم سلوك أولاد علي.

أما الفصل السادس فيندرج تحت عنوان معضلة المجال الديني في مصر، وفيه  يحلل المؤلف الوضع الراهن للمؤسسات الدينية في مصر، ورغبتها في السيطرة على المجال الديني المفعم بروح السيطرة والاستعلاء، والصعوبات التي تواجه الدولة في إعادة تنظيم الشأن الديني.

كما يؤكد المؤلف في هذا الفصل أيضا على أن العلاقة بين الدولة والمؤسسات الدينية في مصر ذات طبيعة خاصة، حيث تتعامل الدولة مع المؤسسات الدينية ليس بوصفها نقيضا للسلطة، وإنما امتداد لها. ومن هنا تشهد العلاقة بين الدولة والمجال الديني في مصر قدرا كبيرا من الجدل والتوتر حول الدور المنوط بالمؤسسات الدينية في المجتمعات بصفة عامة.

وفي الفصل السابع الذي جاء تحت عنوان عودة الدين إلى المجتمع؛ يعرض المؤلف لطبيعة الجدل السائد حول تجديد الخطاب الديني، وطرح رؤية مقترحة لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والمجتمع وفقا لأوليات مجتمعية؛ يُتجاوز بمقتضاها روح التسلط والاستعلاء الديني.

ويرى المؤلف في هذا الفصل أن إعادة صياغة الفكر الديني أضحت ضرورة ملحة، ومحاولة جادة لتجديد الخطاب الديني. ولعلنا نشير هنا إلى أن المقصود بإعادة صياغة الفكر الديني هو طرح فكري جديد لعلاقة المجتمع بالدين.

وإعادة النظر في الفكر الديني من وجهة نظر المؤلف تتم من خلال أربع زوايا: التأويل- التوافق- التفرد- التحرر.

وفي نهاية الفصل يدعو المؤلف إلى تكوين رؤية احتوائية تفتح المجال العام أمام الجميع في العطاء الاجتماعي.

إن النظرة الاستعلائية توجد في قلب تراثنا العربي، وهذه النظرة تسبب التعصب والكراهية بين البشر؛ لذا وجب التخلص منها، والنظر إلى التراث نظرة توافقية موضوعية من أجل إحداث تطوير في بنية المجتمعات البشرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock