أصوات : أثارت جنازة الشيخ أسامة عبد العظيم التي شارك فيها آلاف المواطنين– اهتمام وسائل الإعلام والمتابعين؛ خاصة وأن الشيخ كان شخصية غير معروفة إعلاميا، والمعلومات عنه قليلة وشفهية.. وتنحصر معرفته في المتخصصين وبعض المنتمين للاتجاه الإسلامي.
هذا المقال ربما يكون من أول المقالات التي تحاول تفسير موقف الجنازة ودور صاحبها والاتجاه الذي عبّر عنه داخل الحالة السلفية المصرية.
هو أسامة محمد عبد العظيم حمزة.. ولد عام 1948، وهو العام الذي عرف العرب فيه هزيمتهم الأولي أمام الكيان الصهيوني، فيما عُرف باسم “النكبة” وقد التحق بكلية الهندسة، وبعد أن تخرج فيها وجد من نفسه ميلا للتوجه لعلوم الدين والشريعة؛ فالتحق بجامعة الأزهر – كلية الدراسات الإسلامية، وحقق فيها تفوقا قاده لأن يكون معيدا بالكلية، ثم أستاذا لأصول الفقه بها، ثم رئيسا لقسم الشريعة فيها، ثم متمذهبا بالمذهب الشافعي لحد أن وُصف بأنه شيخ المذهب الشافعي في مصر، وهو من أعلام المدرسة السلفية المؤسسين الأوائل لها، الذين التحقوا بالأزهر وأصبحوا من علمائه وتشربوا روحه العلمية القائمة علي التمهل والاستبصار والتواضع ومعرفة مواضع الأقدام أن تزل وتطغي .
نشط الشيخ في كلية الهندسة بجامعة عين شمس، مؤسسا للتيار السلفي في فترة نتوقع أن تكون في مطلع السبعينيات المبكر، قبل أن تنضج ظاهرة الصحوة الإسلامية وتكبر.. واتخذ من الأرض الفضاء التي كانت قبل أن يبني الحاج حافظ سلامة مسجد النور– أساسا لمدرسة علميه أطلق عليها مدارس النور، وأسس للمعسكرات الطلابية بجامعة عين شمس التي كانت قد بدأت في المدن الجامعية في أوقات الإجازات الصيفية واستضيف من خلالها العلماء والمشايخ، الذين أثروا في الشباب الإسلامي في تلك الفترة، كل هذا قبل أن يغادر إلي الأزهر الشريف، وقبل علاقته بإمام الشافعية الأكبر في مصر والعالم الشيخ محمد نجيب المطيعي (1922- 1985) صاحب تكملة المجموع للنووي (أهم كتب المذهب الشافعي) والمتمكن في علم الحديث، وله أسانيد لم تنقطع إلي النبي صلي الله عليه وسلم.
وكان للرجل، مكتبة بمنطقة العباسية يبيع فيها الكتب، ويؤلف في المجموع ويستقبل فيها طلابه وتلامذته، كما يستقبل قاصديه من العالم الإسلامي للانتفاع بعلمه، ربما هذه العلاقة تكشف السبب عن تمذهبه بالمذهب الشافعي، كما تكشف سبب التحاق الشيخ أسامة بالأزهر الشريف رغم أن الشيخ المطيعي نفسه لم يلتحق بالأزهر للدراسة المنتظمة، ولكنه حفظ المتون وهو صغير في اللغة والفقه والحديث، وكانت له دروسه في جامعة عين شمس بكلية الطب خاصة، وقد تحلّق حوله –فيما نعلم– مجموعة من الأسماء التي ذاع صيتها في علم الحديث منهم: عمرو عبد اللطيف وأبو إسحق الحويني ومحمد الدبيسي.. وقبلهم جميعا الشيخ أسامه عبد العظيم فهو أسن ممن ذكرنا جميعا
ورغم أن هناك غموض في علاقات تلك المجموعات بمصادرها العلمية الأولي، وعلاقتها ببعضها وتحولات كل منهم؛ فإن الراجح عندي أن تأثير الشيخ محمد نجيب المطيعي عليهم جميعا كان كبيرا، ولا يمكن نكرانه وأنه وجههم جميعا؛ إما إلي دراسة علم الحديث علي طريقة أبي إسحاق الحويني وعمرو عبد اللطيف أو علي طريقة أسامة عبد العظيم في التوجه إلي دراسة الفقه الشافعي والاهتمام بأصوله وفهم قواعده والتمكن الكبير فيها إلي حد يجعلني أذهب إلي القول أنه ورث الشيخ نجيب المطيعي في إمامة المذهب الشافعي في مصر .
نموذج الشيخ / القدوة – المسجد/ المؤسسة – الأتباع / الطائعين
يبدو أن الحاج حافظ سلامة الذي كان يترأس جمعية الهداية الإسلامية، كان له علاقة بالشيخ أسامه عبد العظيم في بواكير التأسيس المبكر للتيار السلفي في جامعة عين شمس والمنطقة المحيطة بها، قبل أن يتبلور بشكل واضح لدي المدرسة السلفية بالإسكندرية في وقت لاحق، وإن كانت المصادر والتوجهات والمسيرة مختلفة بينهما، فنحن أمام تيار يقرأ المتون وشروحها، ويتمذهب بالمذهب الشافعي الذي يمثله أسامه عبد العظيم ومن بعده محمد الدبيسي، وتيار لا يقيم اعتبارا كبيرا للمتون واستلهامه الرئيسي في تقديرنا من المدرسة الوهابية في طورها المعدل، الذي استلهمه عبد العزيز بن سعود في تأسيسه للدولة السعودية الثالثة، وتحالف معه في ترويجها وتثبيتها– الأرستقراطية الدينية التي تعود لآل الشيخ ورموز السلفية الكبار أمثال: الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ بن عثيمين ومن تأثر بهم في مصر، كالشيخ محمد حامد الفقي ومدرسة أنصار السنه المحمدية.
وكانت السويس أحد المناطق التي تقام فيها معسكرات الجماعات الإسلامية في ذلك التوقيت، بفضل ما اعتبرهم الحاج حافظ سلامة أبناءً له وأنه كان يمثل وبحق القابض علي مفاتيح مدينته المدينة الباسلة.. بعد تصديه شخصيا والمقاومة الشعبية لمحاولة شارون احتلال المدينة والسيطرة عليها.. ومنعهم من ذلك وتحقق الانتصار بعد تحطيم عشرات الدبابات الصهيونية.. ولعل تسمية مسجد النور الذي بني في نفس مكان المدراس التي كان يقيمها الشيخ أسامة عبد العظيم لدروسه وتلاميذه وكان اسمها مدارس النور– تبدو منطقية إذ تحوّلت المدارس إلي مسجدٍ مركزٍ في منطقة العباسية التي كانت تتفتح على تاريخ جديد لها، مع ما أشرنا إليه من أحداث وتطورات عرفتها مع بدايات الصحوة الإسلامية المبكرة، والتي كان عمادها بلا ريب أسامة عبد العظيم ومجايليه والناشطين معه .
تشير بعض المصادر إلي أن المجموعات التي تأثرت بالشيخ أسامة عبد العظيم قد اقتربت من أحداث الزاوية الحمراء في يونيه 1981، وأنه هو نفسه قد اعتقل مع أحداث 1981، لمدة أيام لم تطل ثم خرج من هذا الاعتقال القصير وقد قرر الابتعاد عن العمل السياسي المُجَابِه للدولة.. ولكن لا يمكن لهذه الأيام في الاعتقال أن تفسر لنا تحوّله ذلك إلا إذا كان هو نفسه ذو قناعة أساسية كونه سلفيا ذا ملامح خاصة – بأن التزكية والتصفية والتحلية والتخلية هي أساس العمل الإسلامي وربما يكون ما أطلق عليه (عبء اللحظة) قد فرض عليه ومن معه من أتباعه بحكم قربهم من الحاج حافظ، وقربهم من مسجد الشيخ كشك والتوتر العام الذي كان يعيشه المجتمع الديني في مصر والأمة المصرية كلها؛ أن ينخرطوا في ذلك التوتر، ولكنه لم يكن انخراطا أصيلا ولا هو تعبير عن منهج الشيخ أسامة وطريقته في العمل .
وهنا فقد قرر الرجل أن يعود إلي منطقة الإمام الشافعي ومصر القديمة والأباجية.. وأن يؤسس مسجده الذي يبلغ ستة أدوار وأن يقدم نفسه قدوة ليعالج بشكل لا هوادة فيه تربية النفس وتزكيتها بمنهج القيام والاعتكاف والصبر علي الناس وأذاهم والاعتقاد أن هذه النفس في الإنسان هي أساس التغيير والحكم والتقلب والملك والأخذ والسلب والعطاء والمنع.. وأن الحكام علي شاكلة محكوميهم وأنه “كما تكونوا يولي عليكم”، ومن أجل تغيير ما في الواقع؛ فلا بد إذن من الانشغال بتربية النفس وتزكيتها وتهذيبها وأخذها بما تكره؛ ولذا كان اهتمامه بالمسجد كمركز، وبتربية من يأتي إلي المسجد بطريقة أشبه بالطرق الصوفية التي تقوم علي العبادة والتبتل والانصراف عن الدنيا وشئونها، وما يضطرب الناس به في أمرها فيختصمون فيه لأجلها.
ولذا كانت صلاته الطويلة بالقرآن الكريم في الصلوات المفروضات، إلي حد أن بعض الأحاديث تتحدث عن أنه كان يختم المصحف الشريف في ستة أيام، وهي الفترة الأدنى التي يمكن لمسلم أن ينهي فيها ختم المصحف مع تدبر لما يقرأ، وفهم لما يتلو كما يذهب أغلب علماء القراءات
وفي فترة رمضان.. حيث يرتفع الشعور الديني، ويصبح المسجد غاصا بقاصديه من مختلف البقاع بحثا عن الخلاص الروحي والتزود بالطاقة الإيمانية؛ فإنه كان ينهك من يصلي خلفه بتطويل القراءة والقيام؛ إلي حد أن البعض يتحدث عن أنه كان يختم القرآن في ثلاثة أيام، وأن ختماته لكتاب الله العزيز بلغت ألفي ختمة، وأنه كان يشترط علي تلاميذه من التيار السلفي الذي يقتدي به أن يحفظ القرآن الكريم .
وكان له جلسات للرد علي أسئلة رواد مسجده في منطقة البساتين بعد صلاة الجمعة، كما كان له درس يوم الأربعاء يحضره الآلاف من تلامذته.
تبدو لي علاقة الشيخ أسامة بتلامذته وباتخاذه مركزا لدعوته هو المؤسسة التي يتحرك عبرها وهو من بناها وتسمت باسمه؛ بحيث أصبح هو موجهها مستخدما في ذلك قدراته التنظيمية بوصفه دارسا للهندسة– تبدو لي هذه العلاقة شبيهة بالمجموعات النقشبندية في حي الفاتح بإسطنبول حتي إن ملابس الشيخ أسامه تبدو قريبة من ملابسهم، هناك تشابه لكن لا توجد علاقه بالطبع، وهذه المجموعات النقشبندية صوفية بينما تلك المجموعات التي يقودها الشيخ أسامة سلفية.
لكن النموذج الذي يمكن فهم الحالة عبره واحد. لدينا شيخ له علاقة مباشرة مع تلامذته ومريديه وأتباعه وهي علاقة روحية بالأساس غذّتها التربية الطويلة بينه وبينهم.. ولدينا مسجد/ مركز يمثل عنوانا مؤسسيا علي الدعوة والطريقة التي يمثلها الشيخ، ورغم أن النقشبندية لها تشوق نحو الخلافة الإسلامية لكنها لا تعمل لإقامتها إلا عبر تزكية النفس وتربيتها ودعم من يعبر عن الدين ومقاصده في الانتخابات المحلية أو التشريعية
لدينا إذن نموذج يفسر حالة الشيخ أسامة عبد العظيم من خلال الشيخ قدوةً والمسجد مركزا ومؤسسة والأتباع والتلاميذ مريدين ربوا علي الطاعة والالتزام بما يقوله الشيخ ويفتي به ويقضي به ويحكم، الشيخ موجه للسلوك باعتباره نموذجا يستحق الاقتداء عبر مكان معلوم ومعروف هو المسجد .
بين منهج تغيير النفس وتغيير المجتمع
أهمية الشيخ أسامة أنه حقق المنهج الذي اختاره واعتبره منهجا له، فلم يحد عنه يمينا أو شمالا، وذاع صيت الرجل زاهدا في الدنيا وزينتها وزخرفها، محققا معني ذلك في الواقع عبر العكوف علي العلم والتدريس والإفتاء والتأليف والعبادة التي اعتبرها أساس التغيير في النفس الإنسانية لأتباعه.
وهو منهج أقرب للتربية الصوفية الذاتية متأثرا في ذلك بابن قيم الجوزية؛ خاصة في كتابه الرائد الرائع “مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين”، ومتبعا طريقته في ترتيب المدارج وسبل التعامل عبرها مع الواقع. ويبزغ هذا المنهج في الأوقات التي يبدو الواقع فيها محاطا بالقيود والضغوط والمخاوف؛ حيث يسعي المتدينون للاقتراب من مناهج تحقق لهم دينهم ولو علي المستوي الفردي إذا كانت المخاطر تحيط بهم إن هم تحركوا لمواجهة الواقع عبر أدوات ستمضي بهم نحو المواجهة مع الدولة والمجتمع، ومن ثم فإنهم يكتنزون قوتهم الإيمانية وطاقتهم الدينية للمحيط الذي يتحركون فيه بتحقيق إشعاع إيماني سلوكي عبر التعامل الهادئ الحكيم الصابر الصامت مع هذا الواقع.
ولا بأس بهذه الطريقة في أوقات الاضطرابات والمواجهات التي أطلق عليها الشيخ أسامه “أوقات الهرج” التي يكثر فيها القتل وتسيل الدماء وتتلاشي معالم الطريق فلا تبدو الحدود واضحة ولا البينات فارقه، هنا منهج العزلة والصبر والتخلص من وسواس النفس وهواتف الطاقة الغاضبة المتأججة التي قد تأخذ الناس إلي مواقع وأماكن وأوضاع لم يكونوا يريدونها ولا هم كانوا قاصديها.
من هنا كان الشيخ أسامة ضد ما حدث في ثورة يناير، واعتبر أن الثورة تحركها أياد خارجية؛ تحقق مصالحها عبر من يتحركون، ولكنهم يحققون أصحاب تلك المصالح، كما لم يكن له أي نشاط سياسي أو مشاركة بالإفتاء أو الانخراط فيما اضطرب فيه بقية الإسلاميين بجميع مدارسهم وتياراتهم بعد ثورة 25 يناير، وظل راسخا علي منهجه محققا نموذج الشيخ/ القدوة – المسجد/ المؤسسة – الأتباع / الهادئون.
ولعل ترفعه عن الانخراط في قضايا الشأن العام وتنازعاتها التي عرفتها مصر منذ الثمانينيات– جعلت من نموذجه الذي عاش لأجله وحققه مخلصا له؛ يشيع بين التيارات المختلفة التي كانت تشعر بحاجتها إلي ما يقدمه، حتي لو كان لها مسار مختلف عنه، لذا كان لشيوع جهده بين جميع التيارات الإسلامية وأخذهم جميعا منه، مما يقدمه في تربية النفس وتحقيق التزكية والخلاص النفسي الداخلي والتغيير الذاتي والفردي أثر في اعتباره ومنهجه أساس اجتمع عليه كل من أخذ عنه ومنه، دون أن يكون وحده بالطبع سبيلا لتغيير المجتمع كله .
يبدو أن الشيخ أسامة عبد العظيم نجح في تحقيق ما اعتبر منهجا لا يحيد عنه؛ عبر سلفية أزهرية توازن بين العقيدة والفقه، ومناهج أصول الدين وأصول الفقه، وبين تربية النفس والصفح الجميل، والتواضع للمجتمع وعدم أخذه بما يراه تلامذته خطأ أو تدهورا فيه، فمرد ذلك عنده تقصير المتدينين الذين عليهم واجب التزكية للنفس الذي يحقق الله لهم بها تغيير المجتمع {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}.
أكثر من مجرد جنازة
الآلاف التي خرجت في جنازة الشيخ أسامة عبد العظيم– هي تعبير عن قوة السلفية الضخمة في المجتمع المصري، وتغلغلها في أوساط كثيرة بين الناس في مصر، وهي رسالة تحتاج الي دراسة عميقة من الباحثين والدارسين؛ خاصة علماء السياسة والاقتصاد السياسي وعلماء الاجتماع وعلماء الاجتماع الديني.