مدونة أصوات

وقائع محزنة لمعايشة خطرة

لا أودُّ أن يسيءَ أحدٌ الظن بي، ولا أن يحكمَ عليَّ وفقَ معاييره الخاصة، ولن أطالبَ أيا من كان أن يعتمدَ أدواتي في الحكم؛ فهي ليست متاحة ولا يمكن اكتسابها بالخبرة المباشرة، وأنا لا أودُّ أن أُتَّهم بالخيانة أو إفشاء الاسرار، فتلك الأماكن التي سأحكي عنها لم أتسلل إليها بل كان دخولي إياها احتفاليا في كل مرة وباعثا على الفرح والزهو.. وأنا-في الحقيقية- تعلمت إدراك هذه الانفعالات الإنسانية بعد وقت طويل، وجهد بالغ؛ ذلك لأن طبيعتي جامدة صامتة، لا تعرف المشاعر ولا تفهم الدوافع، ولا تتحرى طرق الكشف عن الكوامن.. لكنني بحكم العشرة-كما تقولون- صرت خبيرا بكل ذلك على نحو مذهل.. حتى أن مفرداتي تأثرت كثيرا بتلك العوامل، فبتُّ لا أتعجب عندما أستخدم ألفاظا مثل: أتصور، أعتقد، أرى، أظن، استنتجت.. ما أثار دهشتي فعلا أنني استطعت الابتسام بطريقة ما ذات ليلة، وكنت قد أخذت موقعي الاستراتيجي في غرفة المكتب بأحد المنازل العتيقة.. كان رب المنزل رجلا ذا هيبة ووقار، له زوجة هادئة الطبع قليلة الكلام- على غير عادة النساء كما عرفت فيما بعد- هيئة الرجل أيضا كانت باعثة على الاحترام والتبجيل.. كان يقضي وقتا طويلا بحكم عمله في تلك الغرفة.. يقرأ ويكتب ويتلقى الاتصالات الهاتفية، ويتابع الأخبار بعدة وسائل.. رجل تحمل له النفوس إكبارا حقيقيا، وتتجاوز مهابته البشر إلى الشجر والحجر.. كثيرا ما اعترتني رجفة غير ملحوظة عند دخوله المبكر إلى الغرفة، لا أكون على طبيعتي طوال فترة تواجده.. تساءلت كثيرا كيف يستطيع أن يحتفظ بنفس ذات الدرجة من الجدية والاعتداد بالنفس كل هذا الوقت؟ كيف أدركت أنه أمر ينطوي على صعوبة كبيرة، وأنا على ذلك الثبات لسنوات لا أعرف لها عددا.. هل صار لدي أمنية أرجو تحققها مع الوقت؟ كيف حدث ذلك؟ لا أدري.. لكنني واجهت ذلك دون مواربة- رغم أن وقتي كان يسمح بذلك- تمنيت أن أرى الرجل وقد خلع عن كاهله كل هذا الحمل؛ ليصبح عفويا لا يعرف سلوكه تلك القيود الصارمة.. ثم جرت الأمور على هذا النحو لتتحقق الأمنية.. استمعت إلى حوار يفيد أن السيدة قد مرضت وأن عافيتها لم تعد تامة، وأنها تحتاج إلى من يساعدها في أعمال المنزل، بعد بعض الاتصالات أتي ذلك الرجل الريفي مصطحبا معه فتاة في العشرين ذات جمال لا يشبه جمال فتيات تلك الطبقة التي تنقلت بين قصورها وبيوتها منذ زمن.. إنه جمال خاص يحمل شيئا من براءة الغفلة، جمال له طزاجة تلك الحياة الغضة الندية في الأصقاع النائية.. حيث لا تتكدر الأرواح بالسعي الدءوب لتملك كل شيء تهواه النفس أو تشتهيه.. كان حضور الفتاة إلى المنزل له قوة الإشراق المفاجئ في عتمة حالكة.. لم يطل الوقت بالرجل كثيرا لينتبه إلى أنه صار منجذبا نحوها، كان يتلطف في الحديث معها، يبتسم بفرح طفولي بعد أن تغادر الغرفة.. وقد أمسك بيدها لثوان.. ثم زاد فطبع قبلة فوق تلك اليد.. وهو ما جعلني أبتسم.. نعم ابتسمت فقد كانت تلك اللحظة إيذانا بانكسار ذلك التمثال الرخامي الذي تهيبته ومللت وجوده في آن.. غابت عني بعد ذلك كثير من التفاصيل بحكم عدم قدرتي على التنقل.. لكن أحداثا جساما قد حدثت انتهت بخروجي من المنزل وسط أجواء حزينة.. لأقبع خلف الزجاج محاطا بضجيج لا يحتمل لفترة قاربت الأسبوع قبل أن أُحمل في سيارة إلى فيلا حديثة؛ لأحتل مكانا مميزا وسط صالة واسعة حوت من قطع الأثاث النادرة الكثير إلى جانب لوحات فنية رائعة وبُسُطٍ فاخرة.. لا تخطئ عين الاريب أن هذا الجمع السعيد لم يلتئم شمله إلا للمفاخرة والتباهي .. لم يساورني شك أن أصحاب المكان من مُحْدَثِي النعمة.. لم يغب عني أسباب ظهور هذه الطبقة التي راكمت الثروة بطرق غير مشروعة مستغلة أجواء الفساد التي امتدت لعقود.. إنهم يجمعون الأشياء الثمينة دون معرفة قيمتها الحقيقية أنها تمثل لهم جانبا تعويضيا.. فهي تتيح لهم سبيلا نحو نسيان فقرهم الروحي وجدبهم الأخلاقي.. وللحقيقة فإن هذه العبارات الرنانة ليست لي؛ لقد التقطتها من حديث لشابين وقفا إلى جواري ذات صباح بعيد. من خلال ميزتي التي لم أفقدها ابدا، وهي موقعي الاستراتيجي.. بدأت أتابع سلوكيات أصحاب المكان والمترددين عليهم، كان أغلب المترددين من مدرسي اللغات ومعلمي الموسيقى ومدربي اللياقة البدنية ومتخصصي النحافة والتجميل.. كانت الأسرة تتهيأ بجد للالتحاق بالطبقة التي انتسبت إليها مؤخرا.. كانت الدروس بمثابة وجبات دسمة في العلوم والآداب والفنون والتاريخ؛ لكن تلك العقول لا تستطيع هضمها أو التعامل معها، فكان كل ذلك لا يخفي كثيرا من التصرفات والأحاديث التي تكشف عن وضاعة الأصل وسوء المنشأ.. معظم الخلافات التي كانت تحدث بين الزوجين سببها أن أحدهما تصرف بشكل معيب أثناء حضور حفل أو في وجود بعض الجيران.. رغم حرصهما على ضبط الأمور والالتزام بالصمت في أحيان كثيرة إلا أن الامور لم تكن لتجري على نحو مُرْضٍ.. ذات ليلة تطور الشجار من تبادل الألفاظ النابية إلى التشابك بالأيدي، ثم بدأ التقاذف بالمقتنيات الثمينة، وقد نالتني قذيفة في شكل مزهرية بديعة أصابت ظهري قبل أن تتناثر أشلاؤها على أرضية الرخام.. ومع حدوث بعض الإصابات تطور الأمر إلى وقوع أبغض الحلال.. وبعد أن هدأت العاصفة اتفق الطرفان على أن المكان بما حوى كان شؤما عليهما.. فكان البيع لما بقي على قيد الحياة من التُّحف، وهجر المكان إلى غير رجعة هو القرار الذي اتخذه الطليقان.

تلك النظرات واللمسات تنبئ عن عاشق حقيقي لكل ما هو قديم وأصيل.. يبدو أن الرحلة تعثر على محطتها الأخيرة.. في هذا القصر تستطيع أن تشم رائحة الخطر بسهولة.. هذا الشيخ الفاني الذي قارب التسعين بوجهه المتغضن الذي شكلته التجاعيد لا يمحى من الذاكرة مهما بدلت السنون هيئته؛ فلقد ظل لعقود طويلة قريبا جدا من دوائر السلطة فاعلا ومتنفذا بل وضالعا في كثير من الجرائم التي شغلت الرأي العام.. وهو بعد قرابة عقد من النبذ والإبعاد يقرر أن يروي كل ما حدث بتفاصيل الوقائع وبالأسماء الكاملة، ولن يخشى العواقب فماذا يستطيع هؤلاء فعله به؟ لقد صار أقرب إلى كومة نفايات منه إلى إنسان. كان قد أسرَّ بنيته لأحدهم؛ لكن مثل هذه الأمور لا تحتمل السرية كثيرا.. ظنوا أن العمل مازال في بدايته لكن الحقيقة أن العمل كان قد اكتمل وأصبح بين يدي ناشر شهير في إحدى العواصم ؛ غير أنه كان عليه أن ينتظر قائمة الأسماء لتحل محل الأحرف الأولى، وهذه القائمة كانت محفوظة بالفعل في البريد الإلكتروني وتنتظر لمسة واحدة فقط لتصير بين يديه.. في جو مسموم مثل هذا لا يمكن الاستمتاع بنظرة إعجاب أو لمسة انبهار.. تتوالى التهديدات وتتعاقب الردود المتشنجة وتصب اللعنات، ولا أحد يستمع إلى صوت العقل.. الحقيقة أن ذلك كان قد مضى أوانه.. فبجرد التأكد من إرسال القائمة تهيَّأ كل شيء للانفجار قبل أن تزدحم شاشات التلفزة بالعناوين المثيرة عن شخصيات كبيرة متورطة في أشد الجرائم وضاعة.. أما الأدلة فكانت من القوة بحيث لا يمكن دحضها أو تفنيدها.. لم يكن إذن سوى الانتقام السريع نهجا يُتَّبع لإنهاء هذه القصة على نحو ما؛ ثم التفرغ لما يمكن عمله حيال تلك الكارثة. كانت ألسنة اللهب تتصاعد في أرجاء المكان ولم يكن ثمة سبيل للنجاة.. كان الاستسلام سيد الموقف، وكانت تلك هي النهاية بعد أن التهمتني النيران ولم تبق مني سوى رماد استطاع بطريقة ما أن يعلمكم بتلك الوقائع المحزنة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker