إن الاشتباك حول التراث قديم جدا حتى يخال المرء أن جدلا معمقا كان قائما حوله قبل أن يتترث، ويستوي ماثلا من حُجُب الماضي شاغلا الحاضر، مؤثرا إلى حد كبير في رسم ملامح المستقبل.
وما بين الاستغراق الكامل في التراث، واستدعائه على نحو يزيح الحاضر ويزري بالمستقبل لحسابه، وحالة من النبذ الصريح له بوصفه العائق الرئيس أمام انعتاق الأمة من كبوتها التي طالت- ضاعت العديد من الحقائق، وزادت الحيرة بشأنه حتى احتدم الخلاف بين فريقين، كل يحاول إقصاء الآخر؛ إثباتا لصحة موقفه.
يرى الأستاذ محمود أمين العالم في كتابه الوعي والوعي الزائف أن” الموقف من تراث الماضي هو دائما موقف من الحاضر/ المستقبل. إنه في الحقيقة موقف واحد من التاريخ”.
لذلك لا يمكن أن يكون المنطلق في التعامل مع التراث، هو النقمة بزعم أن التطور يستلزم الإقرار بتلك الثنائية التي تقوم على أساس الافتراق الحتمي بين الأصالة والمعاصرة.
ويرى العالم أن اعتماد هذه الثنائية من الأساس هو خطأ فادح إذ أن “القول بالثنائية هو حكم مقارن بين موقفين مختلفين، وليس تقييما لأي موقف منهما. فالذي يرفض العصرية باسم الأصالة، لا يقيم ثنائية بينهما، وإنما يسعى لفرض الماضي على الحاضر، والذي يرفض الأصالة باسم العصرية، لا يقيم ثنائية بينهما كذلك، وإنما يسعى لإفراغ الحاضر من بعده التاريخي. والمقارنة بين الموقفين هي التي تصنع هذه الثنائية بين الأصالة والعصرية حيث لا ثنائية في أي موقف منهما. ليس هناك موقف من الأصالة لا يتضمن موقفا من العصرية. وليس هناك موقف من العصرية لا يتضمن موقفا من الأصالة”.
ومع تجدد الدعوات بالنبذ والتنقية والتنقيح والتي هي في النهاية دعوات لا تتلاقى والواقع وما يفرضه في شيء، يظل الموقف غائما بخصوص منهجية التعامل مع التراث بعيدا عن “الرفض المطلق أو الانتقائية النفعية” ويشير العالم إلى أن النقد التاريخي الشامل الذي يتبنى التراث ويتخذه عمقا تاريخيا وليس مجرد أداة مساعدة للبحث والتبصر في الواقع- هو الأجدى بشرط أن يتأسس على “الوعي النقدي بالتراث بمختلف تعابيره وأشكاله ومضامينه، وفي مختلف ملابساته الاجتماعية التاريخية، في جذوره وامتداداته وصراعاته المتنوعة”.
لا تكمن المشكلة إذن في التراث وما يعتمل بداخله من تباينات تتأبى على القبول والرفض في آن، إنما تكمن في وعينا بهذا التراث من حيث تشكّله في الماضي وفق صراع ممتد للمعاني والقيم، لا وفق نصوص تقبع بلا حراك في الكتب والآثار.
ويرى العالم أن إتاحة هذا الوعي لعموم الناس لا يكون بنشر النصوص وتحقيقها فحسب؛ إنما يكون “بتقييمها تقييما نقديا تاريخيا، وإتاحتها واستلهامها وتجسيدها في حياتنا بمختلف وسائل الإعلام والتعليم والثقافة. على أن الأمر لا ينبغي أن يقف عند التراث الأدبي أو الفكري أو العلمي أو السلوكي، وإنما يمتد إلى التراث الشعبي كذلك”.
وفي خضم دفاعه عن هذا المنهج يرفض العالِم ما ذهب إليه الدكتور زكي نجيب محمود من أن التعامل مع تراث الأقدمين لابد أن يقوم على الانتقاء، يعني انتقاء ما ينفعنا في حياتنا المعاصرة باعتبار أن ثقافة الأقدمين والمعاصرين إنما هي طرائق عيش فإذا كان لدى الأسلاف ما يفيد في هذا الشأن أخذناه وذلك هو الجانب الذي نحن معنيون بإحيائه من التراث، أما ما دون ذلك فيجب تركه غير مأسوف عليه! ويرجع العالِم السبب في هذا الرأي إلى تبني الدكتور محمود للفلسفة الوضعية المنطقية التي تدعو إلى التحليل الجزئي والوصفي للظواهر، ولا تتكشف القوانين العامة للحركة في الفكر والحياة.
ويضيف العالم في هذا الشأن “بهذا المفهوم النفعي العملي الخالص للثقافة، وبهذا المفهوم الانتقائي لموقفنا منه يحدد الدكتور زكي نجيب محمود طريق اللقاء بين القديم من تراثنا والمعاصر من حياتنا، والمفهوم النفعي هو أساس المفهوم الانتقائي وكلاهما ينظر إلى الثقافة والحياة نظرة علوية وصفية تجزيئية أداتية مفرغة من المضمون الاجتماعي والتاريخ وإن لم تكن مفرغة من الدلالة الاجتماعية بالطبع”.
وبالقطع فإن من الإجحاف أن نقوم علاقتنا بالتراث على هذا النحو، ليس بسبب أن هذا المفهوم الانتقائي يجعل التراث مزقا تستخدم لتصلح بشكل مؤقت من تأزمات الواقع، ليس وفق منهج بقدر ما يكون استجابة سريعة لما تفرضه الحاجة، ناهيك عن التشتت والبعد عن القيم الكلية التي يطرحها التراث، فنصبح وفق ذلك – مع التراث- خارج القيمة ووفق ما يقتضيه الحال.
وفي إلماحة هامة إلى مفهوم الخصوصية بوصفه الوشيجة الأهم مع التراث، وخط الدفاع الأخير عنه أمام من يحاولون تبرير نبذه وإقصائه، وتحميله جريرة كل ما آل إليه حالنا- يؤكد العالِم أن القول بأن خصوصيتنا الثقافية قد جمعت بين الروح والمادة على نحو ما – قول يحتاج إلى مراجعة، خاصة وأن هذه الثنائية تكاد تكون مدعاة.. لأن الأساس هو التسوية بين شطري الثنائية، أما طغيان جانب على آخر كما الروح في ثقافتنا على المادة -حسب ما ذهب زكي نجيب- إنما يرد هذا المبدأ المنقوص إلى واحدية جديدة
ويرى العالم أن “العقل هو أساس تراثنا كله، الفكري والأدبي على السواء، وما كان يميز العربي القديم وقفته تجاه العالم من حوله.. أنه ينظر إليه نظرة عقلية” ويضيف “ولو لم يسبق أرسطو العرب بوضعه المنطق؛ لكان حتما على العرب أنفسهم أن يستخلصوه لأنفسهم”.
وعندما تناول الدكتور نكي نجيب محمود أمر هذه الثنائية المشار إليها أراد أن يضعها في حدود العقل والوجدان، وأعتبر أن هذه الثنائية هي أكثر ما يمثل تراثنا الثقافي.. وقد حاول إثبات ذلك من غير وجه لكنه -حسب العالم- لم يصادف توفيقا كبيرا إذ ردها مجددا إلى واحدية أخرى غير عقلانية.. هي خصوصية عملية سلوكية.. وجد نجيب بها وشائج قربي بين نظرتنا العربية والفلسفة الوجودية المؤمنة.. ويتساءل العالِم متعجبا كيف تتفق هذه الوشيجة مع ما سبق أن قاله زكي نجيب محمود، من تميّز العرب بالعقلانية.. فالوجودية فلسفة لا عقلانية بالأساس!