بقلم: طارق يوسف، نقلا عن صفحته على فيس بوك
كان عام 1917 عامًا مشهودًا فى تاريخ الموسيقى العربية والمسرح الغنائي، ففى هذا العام، انتقل سيد درويش من الاسكندرية قاصدًا القاهرة، استجابة لإلحاح جورج ابيض، الذي كان متواجدًا بالاسكندرية فى إحدى زيارات فرقته المسرحية للمدينة الساحلية التي نشأ بها سيد درويش.. تصادف ان سمع جورج أبيض أغنية “زورونى كل سنه مره” يؤديها سيد درويش بصوته، في إحدى المقاهي التي كان يرتادها الجمهور لسماع المغنى، فبلغ من فرط إعجاب جورج ابيض بهذه الأغنية، ان أخذ يغري سيد درويش بشتى الوسائل للرحيل الى القاهرة، واعدًا إياه بان يعهد إليه بتلحين مسرحياته الغنائية..
ذكرنا في المقال السابق كيف كان اللقاء بين بديع خيري وسيد درويش حارًا، حيث اكتشف بديع ان سيد درويش كان يتابع الأزجال التي ينشرها في مجلة (السيف والمسامير).. وكان هذا اللقاء بداية تعاون ثلاثتهم (بديع والريحاني ودرويش)، فبعد هذا اللقاء، سرعان ما بادر بديع الى تقديم سيد درويش لصديقه الفنان نجيب الريحاني، وكان هذا ايذانًا ببدء شكل جديد من المسرح الغنائى لم يكن معهودًا من قبل..
كانت مسرحية “ولو” بداية تعاون سيد درويش وبديع خيرى ونجيب الريحانى.. ثم تتابعت المسرحيات بعد ذلك: “اش” و”رن” و”قولوا له” و”فشر” و”العشرة الطيبة”..
وتتابع ظهور الالحان التى انتشرت وذاع صيتها وأصبحت فيما بعد خالدة نتغنى بها حتى يومنا هذا:لحن السقايين الذى مطلعه “يهون الله يعوض الله \ ع السقايين دول شقيانين \ متعفرتين م الكوبانية”..
ولحن الصنايعية، “الحلوه دى قامت تعجن فى البدرية”..
ولحن العمال، “ما قلتلكش ان الكتره \ لابد يوم تغلب الشجاعه”..
ولحن الموظفين، “هز الهلال يا سيد”..
وبدأت الفرق المسرحية تتسابق للتعاقد مع سيد درويش لتلحين الاستعراضات الغنائية لمسرحياتها، فقام بتلحين الاستعراضات الغنائية لعشرين مسرحية خلال ست سنوات فقط من عمره القصير، كتب كلماتها، علاوة على بديع خيرى، كل من أمين صدقى و بيرم التونسى..
فلحن لفرقة على الكسار 6 مسرحيات..
ولفرقة منيرة المهدية مسرحية “كلها يومين”.. والفصل الأول ونصف الثانى من أوبريت “كليوباترا” التى اتمها الموسيقار محمد عبد الوهاب فيما بعد..
ولفرقة أولاد عكاشة 3 مسرحيات..
ولفرقة جورج ابيض مسرحية أخرى بعد “فيروز شاه”..
ولفرقته الخاصة مسرحيتى “شهرزاد” و”البروكة”..
هذا الى جانب العشرات من الأغانى والأدوار والطقاطيق والموشحات والأناشيد الوطنية..
يقول بديع خيري في مذكراته: “عندما نقل سيد درويش سكنه إلى جانبي في شبرا في جزيرة بدران، توطدت صلة والدته بوالدتي وأصبح بيتانا بيتًا واحدًا… وكان كثيرًا ما يأتي إلي وانا نائم ليوقني من أحلاها نومة..”
– قوم يابديع.. قوم
= فيه ايه ياسيد.. الدنيا اتهدت؟.. مصحينى فى عز الفجر ليه؟
– قوم كفاياك نوم
= هيه الساعه كام؟
– بلا ساعه بلا دياولو.. قوم نشتغل
= انا مش سلمتك كلام آخر لحن فى الروايه امبارح؟.. عايز ايه تانى؟!
– اسمع اللحن ده، عايزك تكتبلى عليه كلام
= يعنى هيه الدنيا طارت ياسيد!
– لأ الدنيا ظاطط يابديع.. المظاهرات ماليا البلد، وانت نايم هنا
= طب عايزنى اعمل ايه؟.. اقوم اشيل العلم، واطلع مظاهره فى جزيرة بدران؟
– اسمع بس بلاش لماضه.. اسمع اللحن ده وحط عليه الكلام اللي يناسب الوضع…
وينتهي هذا الحوار بالنشيد الشهير:
فوق يامصرى مصر دايمًا بتناديك
خد بنصرى نصرى دين واجب عليك…
ويستمر بديع في سرد ذكرياته فيقول:
“كانت التفرقة بين المسلمين والمسيحيين تذكي ضرامها سياسة الإنجليز، وتهددت هذه التفرقة الحركة الوطنية (أثناء ثورة 1919) ورأينا أن ندعو لتآخي العنصرين، فكان توحيد الهلال والصليب منبعه مسرحنا (مسرح الريحاني) ، بلحن قلنا فيه:
أوعى يمينك أوعى شمالك….
إن كنت صحيح بدك تخدم
مصر ام الدنيا وتتقدم
لا تقول نصراني ولا مسلم
الدين لله يا شيخ اتعلم
اللي أوطانهم تجمعهم
عمر الأديان ما تفرقهم
وانتشر اللحن من المسرح إلى الشارع، وخرجنا جميعًا أفراد الفرقة وسيد درويش ونجيب الريحاني وأنأ، في عربات حنطور نحمل أعلامًا تعبر عن الوحدة الوطنية، وسرنا في مظاهرة شعبية كبيرة ونحن ننشد اللحن، حتى وصلنا إلى مسجد ابن طولون، حيث التقى الشيخ مصطفى القاياتي بالقمص سرجيوس وتعانقا، وواصلنا المسير في طريقنا إلى الأزهر، وعند تقاطع شارع الخليج بشارع الموسكي انكسرت العربة التي كانت تحمل سيد درويش تحت ثقله إلى نصفين، ووقع سيد على الأرض وهو ينشد لحنه وعلم التآخي في يده.”