رؤى

لماذا عادت قضية “لوكيربي”.. إلى واجهة المشهد الليبي(؟)

عاد ملف “لوكيربي” مجددا إلى واجهة المشهد الليبي، رغم أن ليبيا كانت قد أغلقت الملف مع السلطات الأمريكية، بتوقيع اتفاقية رسمية في العاصمة الليبية طرابلس، في الرابع عشر من أغسطس 2008، تقضي بإنهاء كافّة الملفات القضائية المشتركة بين البلدين، وتقضي في أهم بنودها بأن “لا يتم ملاحقة أي مواطن ليبي أو مؤسسة تابعة للدولة الليبية، في هذه القضية وغيرها” وذلك في مُقابل دفع مبالغ مالية ضخمة لأسر الضحايا.

وقد اعتمد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الاتفاقية، في أكتوبر من نفس العام، لتُصبح بذلك ليبيا مُحصنة تماما من أي تبعات للقضية، باعتبارها أُقفلت بشكل نهائي.

إلا أن الموضوع طفا على السطح مجددا، بعد أنباء عن اختفاء متهم آخر، هو العميد أبو عجيلة مسعود المريمي الذي كان يعمل مسئولا بجهاز المخابرات الليبية، أثناء حكم معمر القذافي؛ ووجّهت الاتهامات إليه، في الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص “ضلوعه في التخطيط وتصنيع القنبلة” التي تسببت في الحادث، وطالبت واشنطن بترحيله إليها لمحاكمته.

ملف لوكيربي

يرجع ملف هذه القضية إلى 21 ديسمبر عام 1988، عندما أُتهِمَت ليبيا بإسقاط طائرة ركاب أمريكية تابعة لشركة طيران “بان أميركان” أثناء تحليقها فوق قرية لوكيربي في اسكتلندا. وحُمِّلَتْ ليبيا المسئولية عن تفجير الطائرة، واتهام دبلوماسيين ليبيين بتدبير الحادث بشكل رئيس، هما الأمين خليفة فحيمة وعبد الباسط محمد المقرحي، كما طال الاتهام أبو عجيلة مسعود أيضا بالمشاركة في التخطيط له، عقب إجراء تحقيق استمر ثلاث سنوات، من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إف بي أي.

وبناءً على هذه الاتهامات، فُرضت عقوبات اقتصادية وسياسية قاسية على ليبيا، لمدة عشر سنوات، قبل أن تضطر ليبيا إلى دفع تعويضات كبيرة لعائلات الضحايا، من أجل إغلاق الملف بشكل نهائي في عام 2008.

وقد مرت تفاعلات هذا الملف، بعدد من المحطات الرئيسة.. أهمها ما يلي:

ـ رغم رفض القذافي تحمل مسئولية إسقاط الطائرة، إلا أنه تحت ضغط العقوبات الدولية، تقدّم بمبادرات لفك العزلة عن بلاده، شَمِلَت التخلي عن البرنامج النووي الليبي، وتحمل المسئولية “المدنية” عن تفجير الطائرة، باعتبار أن المتهمين مواطنين ليبيين، ودفع تعويضات لعائلات الضحايا.

ـ في مايو 2002، عرض نظام القذافي تسوية تبلغ 2.7 مليار دولار لعائلات الضحايا الـ”270″، وتعويضات بقيمة 300 مليون دولار لليبيين ضحايا الغارات الأمريكية في ليبيا على طرابلس وبنغازي، عام 1986، أيام الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان، التي جاءت بسبب مقتل الضباط الأمريكيين في تفجير لملهى في برلين. ومن ثم، أُغْلِقَ الملف جزئيا في عام 2003، بعد التوقيع على اتفاق بين السلطات الليبية، وممثلي ضحايا حادث لوكيربي، لتعويض عائلات الضحايا.

ـ في الرابع عشر من أغسطس عام 2008، بدأت صفحة جديدة بين ليبيا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد دفع ليبيا التعويضات، بواقع 10 ملايين دولار لكل أسرة من أسر الضحايا؛ ما دفع الحكومة الأسكتلندية، في 20 أغسطس 2009، إلى الإفراج عن عبد الباسط المقرحي، المتهم الوحيد في الحادث، بعد تبرئة خليفة فحيمة، لأسباب إنسانية كونه كان مريضا بالسرطان.

بهذا أغلق الملف نهائيا، بعد التوقيع على اتفاقية رسمية، في العاصمة الليبية، تقضي بإنهاء كافة الملفات القضائية المشتركة بين البلدين، وتقضي في أهم بنودها بأن “لا يتم ملاحقة أي مواطن ليبي أو مؤسسة تابعة للدولة الليبية، في هذه القضية وغيرها”؛ وهي الاتفاقية التي تعززت بموجب الأمر الرئاسي الموقّع من الرئيس الأمريكي جورج بوش “رقم 13477 الصادر في أكتوبر 2008”.

عوامل متشابكة

مجموعة من العوامل تخص أطرافا متعددة، وتتشابك في ما بينها حول المصالح في إعادة فتح قضية “لوكيربي” مجددا.. أهم هذه العوامل ما يلي:

٭ محاولة بعض المحامين الأمريكيين الحصول على أموال: حيث إن هؤلاء، بحسب ما يشير عبد المنعم اليسير، المحلل السياسي الليبي المقيم في الولايات المتحدة، في حديث له إلى موقع “العين الإخبارية” يدفعون الإدارة الأمريكية الحالية للمُضي قُدما في هذا الاتجاه، في محاولة منهم للفوز ببعض الأموال، كـ”حصة” في أي تعويض محتمل. ومن ثم، فإن إعادة فتح القضية من جديد، يُعد “استغلالا” أكثر منه عملا قانونيا، لأن الملف قد أغلق منذ أكثر من 14 عاما.

٭ محاولة الحصول على حصة من الأموال الليبية المجمدة: إذ، إن هناك أموالا ليبية مجمدة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا؛ ومن ثم فإن إعادة فتح قضية لوكيربي مجددا، ربما تكون مرتبطة بفك القيود عن بعض الأموال المجمدة. ويتضح ذلك عبر حالة الضعف التي تمر بها الدولة اليبية وهشاشة الوضع بالبلاد حاليا، ما جعلها هدفا لأي فرصة استغلال، خصوصا أن الأموال المجمدة تصل إلى مليارات الدولارات. أضف إلى ذلك، أن إعادة فتح قضية لوكيربي، في هذا التوقيت، تشير إلى احتمال يتعلق بالضغط على الدولة الليبية، بخصوص تمرير بعض الملفات، التي تمثل أهمية للولايات المتحدة، من بينها النفط والغاز وغيرها.

٭ محاولة حكومة “الوحدة” استغلال الملف لمصلحتها: فقد أثار خبر اختفاء مسئول المخابرات السابق، أبو عجيلة مسعود، التي زعمت تقارير بريطانية وأمريكية، في عام 2020، أنه ساعد في صنع القنبلة التي أسقطت الطائرة في قرية لوكيربي، جدلا واسعا في البلاد، وسط تنامي شكوك باختطافه، وفي إثر تسرب أنباء عن نية حكومة الوحدة في طرابلس، التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، تسليمه إلى الولايات المتحدة، التي لطالما طالبت به خلال العامين الأخيرين.

وهناك عدد من المؤشرات، زاد من هذه الشكوك، ودفع إلى احتمال أن تكون هناك “صفقة” ما، بين حكومة الدبيبة والإدارة الأمريكية، منها: أن حكومة الدبيبة تجاهلت جدلاً محلياً واسعاً، اندلع بعد الكشف عن خطف العميد أبو عجيلة، خصوصاً أن التسريبات تشير إلى ميليشيات دعم الاستقرار، بقيادة عبد الغني الككلي الشهير بـ”غنيوة”، القيادي العسكري الموالي للدبيبة، والاستخبارات العسكرية، بأنها هي من تقف وراء “الاختطاف”. بل إن الحكومة لم تنفِ تسليم أبو عجيلة، واكتفت ببيان على لسان وزارة العدل، قالت فيه إن قضية لوكيربي أُغلقت بشكل نهائي من الناحية السياسية والقانونية، في عام 2008، “ولا يمكن إثارتها من جديد”.

من هذه المؤشرات أيضا، تصريحات إعلامية لوزيرة الخارجية في حكومة الدبيبة، قبل حوالي عام، تؤكد فيها إن “بلادها مستعدة للتعاون مع واشنطن لتسليمها مشتبها به في قضية تفجير لوكيربي”. وأشارت نجلاء المنقوش، في حوارها مع قناة “بي بي سي” البريطانية، العام الماضي إلى أن “نتائج إيجابية آتية، والحكومة الليبية تتفهم ألم وحزن أسر الضحايا، لكنها بحاجة إلى احترام القوانين، والولايات المتحدة وليبيا تتعاونان في القضية، وهي تتقدم”. وبعد الضجة التي أثارها هذا التصريح، الذي تسبب في إيقافها عن العمل ومنعها من السفر مؤقتاً، أصدرت المنقوش بياناً نفت فيه صحة ما نسب إليها بخصوص أبو عجيلة، مؤكدة أنها لم تذكره بالاسم خلال المقابلة التليفزيونية.

استغلال سياسي

في هذا السياق، يمكن القول بأن إعادة فتح ملف قضية لوكيربي، في الوقت الحالي، وأيا تكن الأطراف التي تحاول إثارة هذا الملف من جديد، سيخلق تحديات والتزامات واستحقاقات جديدة؛ بل، إن هذه القضية إذا أُثيرت من جديد، وأصبحت موضوعا لتحقيق جنائي، سوف تساهم في إدخال ليبيا إلى عقود قادمة من الاستباحة. ورغم أن إعادة فتح هذا المف، تبقى غير منطقية، وغير ممكنة، بالنظر إلى الاتفاقية الموقعة بين ليبيا والولايات المتحدة، في عام 2008.. رغم ذلك، تبقى إعادة فتح قضية تفجير طائرة لوكيربي من جديد، بمثابة استغلال سياسي تمارسه واشنطن على الدولة الليبية لتمرير ملفات معينة. هذا فضلا عن محاولة بعض الأطراف، الداخلية والخارجية، الاستفادة من إعادة تحريك هذا الملف، لمصالح شخصية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock