في كتاب الله الكريم، وصل عدد مرات ورود لفظ “نفس” إلى إحدى وستين مرة، في حين وصل عدد مرات ورود اللفظ ومشتقاته معًا، إلى مئتين وخمس وتسعين مرةٍ ما يؤشر إلى مدى الاتساع في دائرة الدلالة التي يستند إليها المصطلح في آيات الذكر الحكيم.
ولم يرد لفظ “بَدَن” إلا مرة واحدة، وورد لفظ “جَسَد” أربع مرات، في حين لم يرد لفظ “جِسْم” إلا مرتين فقط.
أما لفظ “الروح” ومشتقاته فقد ورد إحدى وعشرين مرة، ما يؤشر إلى التكثيف الدلالي لمصطلح الروح في القرآن الكريم. وهنا لنا أن نتناول جانبي الإشكالية المثارة، من منظور دائرة الدلالة التي تتضمن كل منهما.
هنا تتداعى التساؤلات حول ثلاثية: النفس/ الروح/ الجسم، تلك التي تنطلق من التساؤل حول الجسم، ولماذا الجسم تحديدًا وليس البدن أو الجسد؟ ثم ما النفس؟ وما الروح؟ ما العلاقة بينهما؟ وما العلاقة بينهما وبين الجسم؟؛ وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق النفس، وخلق الجسم، فهل الروح أيضا مخلوقة؟ وهل هي حقيقة “سر الحياة”؟
هذه وغيرها كثير، تساؤلات تطرح نفسها في إطار محاولتنا وضع اليد على الفارق بين المصطلحات الثلاثة، كمصطلحات تُمثل أبعاد الحياة الإنسانية، ومرتكزاتها؛ بل ومناط السعي الإنساني كـ”تكليف إلهي” لهذا الإنسان في الحياة الدنيا.
واستكمالا لما تناولناه من قبل هنا في هذا الموقع.. عن إشكالية “النفس – الروح” سوف نبدأ هنا بمحاولة التعرف على دلالة مصطلح “النفس”.. حيث بيَّن التنزيل الحكيم أن الله خلقنا من “نَفْسٍ وَاحِدَةٍ”، جاء هذا في آيات ثلاث. يقول سبحانه: “خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا” [الزمر: 6]. ومن خلال الحرف “ثُمَّ” الذي يُفيد وجود مسافة زمنية بين ما قبله عما بعده، يتبين أن هناك خلق من “نَفْسٍ وَاحِدَةٍ”، وهناك “جَعْل” لزوجها منها. والجعل تغير في الصيرورة، التي تنفي أي تعاقبية تكرارية على محور الزمان؛ فأن يكون هناك تغيّر فهذا يعني ـ بالطبع ـ أن النفس الأصل (الواحدة)، تحمل في تكوينها إمكانية جعل زوجها منها.
ولعل ذلك ما يتبدى عبر حركة العطف، التي تُشير إلى علاقة الخاص بالعام، في قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا” [الأعراف: 189]. فالجعل يحمل دلالة العلاقة النسبية بالخلق وظواهره، كما تؤكد ذلك كل آيات الجعل في القرآن الكريم؛ ما يعني أنه إشارة إلى نسبية العلاقة بين ظواهر الخلق وحياة الإنسان. وهذا ما يوضحه قوله سبحانه: “يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً” [النساء: 1]. ولنا أن نلاحظ أن فعل “بَثَّ” في اللسان العربي تعني تفريق الشيء وإظهاره، وأنه جاء في صيغة الماضي، والمضارع أيضًا، للدلالة على استمرارية البث كـ”سنة إلهية”؛ كما في قوله تعالى: “وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ” [الجاثية: 4].
فإذا اقتربنا من مصطلح “نَفْسٍ وَاحِدَةٍ”، فسوف نلاحظ أن لفظ نفس، في الآيات الثلاث، جاءت نكرة، وجاء وصفها بواحدة نكرة أيضًا، وزوجها جاءت نكرة كذلك؛ ولأن النكرة تُفيد العموم، كما تُفيد غير المعين وغير المعروف، ولأن آدم عليه السلام هو معين ومعروف، لذا يتأكد لدينا أن مصطلح “نَفْسٍ وَاحِدَةٍ” يُراد بها جنس من الخلق، وليس شخصًا مفردًا بعينه. فلو كانت النفس الواحدة التي خلقنا الله منها هي آدم ـ كما يفهم البعض ـ لما جاءت نكرة في الآيات الثلاث.
الخلق والجعل والإنشاء
الدليل على قولنا الأخير هذا، هو ورود “نَفْسٍ وَاحِدَةٍ” في آية رابعة، ولكن هذه المرة ترتبط بـ”الإنشاء” نعني قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ” [الأنعام: 98]. والإنشاء في اللسان العربي من نشأ، الذي يدل على ارتفاع في شيء وسمو.
هكذا، تتكامل ثلاثية “الخلق، الجعل، الإنشاء” التي اختارها الله سبحانه وتعالى، ليوجد من خلالها الإنسان. يقول سبحانه: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ٭ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ٭ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ” [المؤمنون: 12-14].
ولنا أن نلاحظ، هنا، أن لفظ “سلالة” من الفعل “سل”، الذي يدل على نزع وخروج شيء من شيء، وهي مِنْ سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استَخْرَجْتَه منه؛ فليس المقصود بالسلالة عينة من الطين كما قال المفسرون، إنما هي سلالة من البشر خُلِقت من الطين انسل منها آدم وزوجه. فهي لم ترد في كلام العرب ولا في التنزيل الحكيم إلا لمجموعة من الناس والذرية.
هذا، وإن كان يوضح كيفية جعل آدم خليفة لمن سبقه من جنس البشر، وليس خليفة لله، في الأرض؛ فهو – في الوقت نفسه- يؤكد أن النفس الإنسانية هي ذات الإنسان الحية والفاعلة؛ بل والمُكَلَفة بمهام الاستخلاف. إذ يوضح التنزيل الحكيم أن كل ما يعود إلى الإنسان من حياة وموت وتكليف وبعث، إنما يعود إلى النفس ولا علاقة له بالروح. يقول سبحانه وتعالى: “رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا” [الإسراء: 25] ويقول سبحانه: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” [آل عمران: 185].
ولأن التكليف مرتبط بالنفس، وكذلك الكسب وأجره، سواء كان ثوابًا أم عقابًا، كما في قوله تعالى: “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ” [البقرة: 286]، لذلك فهي مركبة عبر التقابل بين توجهين هما الفجور والتقوى. ففي الآية: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ٭ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” [الشمس: 7-8]، تأكيد على قابلية النفس ـ بحكم تركيبها ـ لأن تنقسم على نفسها؛ فالتسوية الإلهية للنفس، إنما تأتي عبر إلهامها “فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا”.
وبالتالي، فإن حياة الإنسان تكون من خلال نفسه، وفاعليته تتمثل في مدى مقدرته على القيام بمهمته في الأرض. وبكلمة، فهو يستمد حياته وفاعليته من المقومات التي منحها الله إياه للقيام بذلك.
فماذا إذن عن الروح؟