“لا أعرف ما الذي يربطني كثيرا بالشاعر المصري الراحل طاهر أبو فاشا (1908 – 1989)؟!.
الأخير ـ رحمه الله كان شاعرًا وقاصًا وأديبًا. وكان ذا نزعة صوفية لونت قصائده بنكهة روحية على النحو الذي اعتبره ـ بحسب تقديري ـ أحد أكبر الشعراء الروحيين في تاريخ العربية.
أبو فاشا.. كتب قصائد فيلم “رابعة العدوية”، والتي كانت في الأصل مسلسلا أذيع في نهاية الخمسينيات القرن الماضي.
واللطيف أن أبو فاشا ـ ذاته ـ ظهر في أربع مشاهد تقريبا آواخر الفيلم ليضاف ذلك إلى رصيده الإبداعي كممثل سينمائي!!
من أجمل ما كتب في الفيلم قصيدة “حانة الأقدار” والتي أدتها أم كلثوم ولحنها محمد الموجي.
القصيدة.. كتبها أبو فاشا على بحرين: الأول بحر “الرمل” وهو شديد الوقار والصعوبة اتبع فيها أبو فاشا سبيل المحدثين، إذ تصرّف في “تفعيلاته” على غير ما ورثناه من الآباء المؤسسين:
“حانة الأقدار عربدت فيها لياليها والهوي صاحي
هذه الأزهار كيف نسقيها وساقيها بها مخمور
كيف يا صاح؟”
والثاني ـ وهو ما يهمني ـ كتبه أبو فاشا.. على أجمل إيقاعات الشعر العربي أي على بحر “المتقارب”:
سألت عن الحب أهل الهوى
(فعول) (فعولن) (فعولن) (فعو)
سقاة الدموع ندامى الجوى
(فعولن) (فعول) (فعولن) (فعو)
وعلى هذا النحو بقية القصيدة ومنها:
فقالوا حنانك من شجوه
ومن جده بك أو لهوه
ففي حانة الليل خماره
وتلك النجيمات سماره
ورحت إلى الطير أشكو الهوى
وأسأله سر ذاك الجوى
فقال حنانك من جمره
ومن نهيه فيك أو أمره
“المتقارب” بالنسبة لي ـ يشبه المتدارك ـ في “الشقاوة”.. وعبقرية الشاعر ـ هنا ـ تتجلى في قدرته على أن يمتطيه، ويصنع من صلصاله “الزاعق” قصيدة روحية ملساء تضج بالقلق والحزن والغموض الصوفي المتعالي على العالم في تفاصيله المهدرة لطاقة الإنسان الروحية.
في تقديري “أبو فاشا” تفوّق على الحلاج المُتَوَفّى في بغداد عام 992مـ: الأخير كتب قصيدته الخالدة التي وصلنا منها أربع أبيات فقط:
يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا
(فاعلاتن) (فاعلاتن) (فاعلا)
لَم يَزِدني الوِردُ إلا عَطشا
(فاعلاتن) ( فاعلاتن) (فَعِلَا)
وما بعدها:
لي حَبيبٌ حُبُّهُ وَسطَ الحَشا
إِن يَشَأ يَمشي عَلى خَدّي مَشى
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ
إِن يَشَأ شِئتُ وَإِن شِئتُ يَشا
كتبها الحلاج على “الرمل” وتفعيلاته:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلا (بإكسسواراته) التي يعرفها الشعراء ودارسو العَرُوض.
وهو بحر بالغ الصعوبة ـ يعني كما نقول “رِخِمْ”.. ويتجنبه الشعراءُ لـ”رخامته”.. ولكنه يصلح في تعدد الأغراض (فرح وأحزان): أنا كتبت عليه “عمودي وتفعيلة”.. كما كتب عليه الطبيب د. إبراهيم ناجي ـ رحمه الله ـ رائعته التي غنتها أم كلثوم ولحنها السنباطي “الأطلال”:
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
(فاعلاتن) (فاعلاتن) (فاعلا)
ويجوز (فعلاتن) عوضا عن (فاعلاتن)
ويجوز في القافية (فعلاتن) عوضا عن (فاعلا)
لكن بحر المتقارب ذات الإيقاع الصاخب والذي يضج بـ”الشقاوة” يحتاج إلى مهارات خاصة لتطويعه في صوغ رحلة روحية تتسم بالهدوء والرصانة والهيبة.
بيد أن العبقرية الأكبر، كانت محمد الموجي الذي أضاف المزيد من الإحساس بالوقار والهيبة من خلال نوتةٍ، قوامها الأساسي مقام “كرد” الشرقي، والخالي من “الربع تون” ليشكل درجة مشتركة مع الموسيقى الغربية وخاصة الإسبانية.. وتنقل الموجي بين بَحْرِي (الرمل والمتقارب).. بمقامات (الكرد والرست والحجاز كرد).. (درجة الكرد) ليضيف “بهار” غربي/شرقي متجاوز للحدود يتناسب مع إنسانية القصيدة وتعاليها بروحانيتها على المحلية.
يبقى أن أشير هنا إلى أن حانة الأقدار.. “فنتازيا” روحية كتبها طاهر أبو فاشا في “حب رابعة”.. “عازفة الناي” التي حُفرت ملامحُها في وعيه إلى الأبد.. حتى أني سمعته بنفسي.. وهو يقول “لو رأيتها يوم القيامة.. سأعرفها من بين مليارات البشر”.