يحفل تاريخ النضال الفلسطيني بالعديد من الوجوه ذات الأثر العظيم، والتي أثرت بأعمالها الخالدة صفحات تاريخنا العربي، بأروع أمثلة البطولة والفداء.. ولا يخفى على كل ذي لُبٍ أن العدو الصهيوني، يحارب بأحط الوسائل وأحقرها، لمحو الذاكرة العربية، خاصة تاريخ نضال الشعب الفلسطيني ضد الغاصبين عبر مختلف العصور.. ولا شك أن كثيرا من هذه النماذج قد طواها النسيان.. لذلك سنحاول إلقاء الضوء هنا على بعضها تذكيرا للشباب العربي ببطولاتهم وتحفيزا وتنشيطا للذاكرة العربية المستهدفة بالتغييب والنسيان.
جمال صالح الحسيني (1892-1982)
في أثناء انعقاد المؤتمر الوطني الرابع في فلسطين عام1921، برئاسة موسى كاظم الحسيني- استدعى الأمر وجود مترجم يجيد الإنجليزية، وبالتحري اهتدى منظمو المؤتمر إلى شاب في التاسعة والعشرين يدعى جمال صالح الحسيني، وأثناء قيامه بأعمال الترجمة بهر جمال الحاضرين بطلاقته غير المسبوقة في اللغتين العربية والإنجليزية، ويرجع الفضل في ذلك لأستاذيه خليل السكاكيني مدرس اللغة العربية، وشبلي الجمل مدرس اللغة الإنجليزية، اللذين درساه بالمدرسة الابتدائية بالقدس الشريف التي ولد فيها عام 1892.. واستقر الرأي على أن يشغل السيد جمال منصب سكرتير المؤتمر ومن ذلك اليوم بدأ ممارسة العمل السياسي، وعمل بعد ذلك سكرتيرا للجنة التنفيذية للعمل الشعبي ثم أمينا لها حتى1935.
وكان الحسيني قد عزم على دراسة الطب؛ فالتحق بالجامعة الامريكية ببيروت عام1912، وانتظم في الدراسة لثلاث سنوات ..لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون أن يستكمل دراسة؛ إذ أغلقت الجامعة أبوابها فعاد إلى القدس.
وفور عودته اختير جمال للعمل مترجما بالإدارة الحكومية للانتداب، وبالطبع فإن تلك الوظيفة لم تناسبه فاستقال، وأنشأ مكتبا خاصا للترجمة بالقدس.
شارك الحسيني في الوفد الفلسطيني في مؤتمر لندن 1930، وفور عودته ألقت سلطات الاحتلال القبض عليه، وأودع سجن عكا عقب مشاركته التنظيمية في مظاهرة القدس الشهيرة، وشهدت فلسطين على إثر ذلك إضرابا عاما اضطر سلطات الاحتلال للإفراج عن المعتقلين.
بعد تلك الأحداث بخمس سنوات ظهر الحزب العربي الفلسطيني للنور ممثلا لأغلبية الشعب الفلسطيني، وتولى السيد جمال الحسيني رئاسة الحزب، وممثلا له في اللجنة العربية العليا، ثم رئيسا للوفد الفلسطيني إلى لندن عام1936، وأصدر جريدة اللواء الناطقة بلسان الحزب العربي الفلسطيني في القدس. ومع تصاعد الأحداث واندلاع الثورة الكبرى حلت سلطات الاحتلال اللجنة العربية العليا، وطاردت أعضاءها؛ فاضطر جمال إلى الالتحاق بالحاج أمين الحسني في بيروت لمتابعة أعمال اللجنة ودعم العمل الثوري على الارض.. ومع قرب انطفاء جذوة الثورة، واندلاع الحرب العالمية الثانية يختار جمال لرئاسة الوفد الفلسطيني في مؤتمر المائدة المستديرة في لندن عام1939، ويفشل المؤتمر نظرا للتعنت البريطاني والسيطرة الصهيونية؛ فيعود الحسيني إلى العراق ” حيث لوحق من قبل السلطات البريطانية بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وإخفاق ثورة رشيد عالي الكيلاني، ومن ثم غادر إلى إيران حيث ألقي القبض عليه من قبل السلطات البريطانية مع عدد من الزعماء الفلسطينيين والعرب الذين لم يتمكنوا من الهرب إلى ألمانيا، فقامت السلطات البريطانية بزجهم في معتقل الأحواز، ثم نقلوا إلى معتقل في روديسيا حيث أمضوا أربعة أعوام”.
ثم كانت رحلة العودة إلى القدس عن طريق رأس الناقورة لبنان عام 1946، ويستأنف جمال نشاطه السياسي ورئاسة الحزب العربي، وتحرك في طول البلاد وعرضها، وكانت الجموع تخرج لاستقباله إذ كان الحزب العربي هو حزب الأغلبية بحق.. بعد نكبة عام 1948م، غادر جمال الحسيني فلسطين إلى القاهرة، حيث اشترك في حكومة عموم فلسطين من خلال المؤتمر الفلسطيني الذي عقد في قطاع غزة عام 1949م.. ثم انتقل جمال الحسيني إلى السعودية وعمل مستشارا للملك، ثم عمل بالتجارة قبل أن ينتقل إلى بيروت التي ستشهد وفاته ودفنه في الخامس من يوليو عام1982.
عارف العارف ( 1892– 1973م)
مقدسي آخر تنفس نسائم القدس للمرة الأولى في عام1892، وفي مدارسها الابتدائية والثانوية تعلم قبل أن ينتقل إلى تركيا لنيل شهادة في السياسة والاقتصاد عام1913، وفور تخرجه يعمل العارف بالخارجية التركية، ولا ينسى حبه للصحافة فيعملا بها ليلا، قبل التحاقه بالكلية الحربية التي سيتخرج فيها ضابطا مشاركا في القتال في القفقاس، وهناك يؤسر العارف وينقل إلى سيبيريا؛ ليقضي هناك ثلاث سنوات يستطيع خلالها إتقان الروسية والألمانية، وبسبب اندلاع الثورة الشيوعية يستطيع العارف الهرب مع مجموعة من الضباط عبر منشوريا إلى اليابان فالصين، فالهند، فالبحر الأحمر فمصر.
ومن مصر سافر العارف إلى القدس، ومنها بدا نضاله ضد الاحتلال البريطاني، فأصدر عام 1919، جريدة سورية الجنوبية فكانت أول جريدة عربية تصدر في القدس منذ بدء الانتداب لمقاومته؛ لذلك اعتبرته سلطات الاحتلال محرضا على الثورة فاعتقلته وأغلقت الصحيفة، لكنه استطاع الفرار إلى سورية وعمل ضد الانتداب الفرنسي لفترة ثم غادر إلى شرق الأردن قبل أن يسمح له بالعودة إلى القدس .. وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل عارف إلى رام الله وعين مساعدا لحاكم لواء القدس، وبقي فيها حتى انتهاء الانتداب البريطاني عام 1948، وبعد النكبة عين العارف حاكما عسكريا لرام الله، ثم رئيسا لبلدية القدس من 1949-1955، وفي أواخر هذه السنة تولى وزارة الأشغال في الحكومة الأردنية. وفي سنة 1967 أصبح مديرا لمتحف الآثار الفلسطينية في القدس.
يعد عارف العارف أحد كبار المؤرخين الذين أنجبتهم فلسطين في القرن العشرين. خاصة لهذه الفترة الحساسة من التاريخ الإسلامي عامة والفلسطيني على وجه الخصوص، ولم تمنعه مشاغله من التأريخ والتأليف، واتسمت مؤلفاته بالأمانة العلمية والموضوعية، ومن أهمها: تاريخ الحرم القدسي، المسيحية في القدس، المفصل في تاريخ القدس، تاريخ قبة الصخرة والمسجد الأقصى، والنكبة في 7 مجلدات… توفي السيد عارف العارف في الثلاثين من يوليو عام1973، بمدينة رام الله ودفن بها.
حسين فخري الخالدي (1894 – 1962)
ولد السيد الخالدي في مدينة القدس الشريف في عام1894، وتلقى تعليمه بها قبل أن ينتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث سيدرس الطب لعامين قبل أن يلتحق بالجيش العثماني؛ لكن الحنين إلى الطب عاوده فعاد لاستكمال دراسته بالجامعة اليسوعية ببيروت والتي سيتخرج فيها طبيبا عام1916.
التحق بحكومة الملك فيصل الأول في دمشق وعين طبيبا في حلب. وقد عاد إلى القدس بعد أن أطاح الفرنسيون بحكم فيصل سنة 1930، فعين نائبا لمدير الصحة العام في فلسطين. وظل في هذا المنصب حتى سنة 1934 حين عين رئيسا لبلدية القدس إثر فوز قائمته في الانتخابات البلدية.
أسس الخالدي في سنة 1935 حزب الإصلاح، واختير عضوا في اللجنة العربية العليا برئاسة محمد أمين الحسيني. وكان واحدا ممن اعتقلتهم السلطات البريطانية سنة 1937 ونفتهم إلى جزيرة سيشل. وقد بقي فيها حتى سنة 1938، ثم ضمه الوفد العربي الفلسطيني إلى مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد في لندن.. تولى الخالدي أمانة سر الهيئة العربية العليا، ودعا إلى تأسيس بيت المال العربي، لتمويل النشاط الوطني الفلسطيني. ولما ارتكب الصهاينة مذبحة دير ياسين عام 1948، صحب الخالدي وفد منظمة الصليب الأحمر الدولي إلى القرية لانتشال جثث الشهداء العرب من الآبار، وعقد مؤتمرا صحفيا كشف فيه عن بشاعة تلك الجريمة النكراء.
عين سنة 1950 حارسا للأماكن المقدسة إلى أن تولى وزارة الخارجية الأردنية في حكومة فوزي الملقي سنة 1953، كما اختير عضوا في مجلس الأعيان الأردني. ثم تولى ثانية وزارة الخارجية في حكومة سمير الرفاعي (1955). وأسندت إليه رئاسة الوزارة بعد استقالة حكومة سليمان النابلسي في 15/4/1957لمدة أسبوع واحد.
أقام الخالدي بعد ذلك في أريحا، وتفرغ لتأليف مؤلفه المعروف باسم الخروج العربي، وكان هذا الكتاب بمثابة الرد القاطع على رواية الخروج للصهيوني ليون أوريس.. توفي الخالدي في مستشفى السلط في فبراير 1962، ودفن في القدس تاركا مذكراته، وكتابين وعددا من المقالات.