بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة عُمان
يريد هذا المقال أن يعترف بشيئين متناقضين الأول: الاتفاق الذي ابرم بين السعودية وإيران يمثل تطورا سياسيا جيدا والثاني: إنه يحذر في الوقت نفسه من التوقعات المبكرة المبالغ فيها عن أثره والذي رفع في بعض التقديرات لدرجة أنه اعتبر بمثابة تغيير كامل لخريطة وموازين الشرق الأوسط.
أولا: تطور جيد لاستقرار المنطقة: نحن أمام تطور سياسي جيد للغاية يعيد الاعتبار لسياسة الحوار والبحث عن حلول سلمية المنافسات والصراعات الإقليمية في منطقة الخليج والجزيرة العربية التي عرفت 4 حروب كبيرة ومؤذية للغاية منذ عام 1980 بين العراق وإيران نهاية بحرب اليمن الراهنة مرورا بغزو العراق للكويت وغزو أمريكا وبريطانيا للعراق.
ويعيد الاعتبار أيضا لدور الأطراف الإقليمية التي اتخذت من سياسة مد الجسور وتشجيع التفاوض وتقديم الحلول الوسط نهجا راسخا لها فكما اعترف علي شمخاني في بكين فإن اتفاق إعادة العلاقات مع السعودية لم يكن ممكنا دون الجولات التفاوضية بين الطرفين التي رعتها سلطنة عمان والعراق في العامين الماضيين.
وسيضمن هذا الاتفاق على الأقل لفترة من الوقت وفي الحد الأدنى المكاسب التالية:
– قطع الطريق حاليا على أي محاولة إسرائيلية قريبة لتوريط دول الخليج في تحالف عسكري يقوم بضربة حمقاء ضد إيران كما تسعى بعض الدوائر المتطرفة في أكثر حكومات إسرائيل جنونا ودموية.
– بما لإيران والسعودية من نفوذ على الأزمة اليمنية وأطرافها يفتح اتفاق إعادة العلاقات فرصا حقيقية لبدء التوصل لحل سياسي تدريجي يساعد الجهود العمانية والأممية الحالية لتثبيت الهدنة والانتقال إلى تسوية سلمية واقعية تضمن خروجا مشرفا للسعودية والتحالف العربي من اليمن يوقف النزيف المالي والعصبي لهذه الحرب وتضمن من ناحية ثانية إمكانية جلوس المكونات اليمنية مع بعضها البعض للتوصل إلى حل لا يحاول إقصاء أي طرف في يمن المستقبل.
– يزيد الاتفاق من احتمالات استثمار الفرص الكبيرة التي تواجدت في السنوات الأخيرة -وخصوصا بعد الزلزال الموجع- في إعادة سوريا العزيزة إلى العالم العربي والجامعة العربية ورفع أو تجاوز العقوبات المجحفة بحقها فمعروف أن الأزمة السورية كانت في جزء ولو محدود منها صراع بالوكالة بين السعودية وإيران.
– إمكانية حلحلة المأزق الوجودي للبنان والذي ينذر بانهياره كبلد صغير مع تحطم اقتصاده جزئيا بسبب المقاطعة الخليجية والتنافس الإيراني السعودي عبر حلفاء كل طرف من الفصائل اللبنانية.
أمامنا شهران حسب الاتفاق حتى نرى ما إذا كانت السفارات ستفتح والسفراء سوف يقدمون اعتمادهم في الرياض وطهران أم لا؟ .
وحتى نرى ما إذا كان الاتفاق سيصمد للتحديات المذهلة التي ستواجهه سواء من التآمر الإسرائيلي المتوقع ضده بالتشارك الأصغر من أطراف في المنطقة وهل سيصمد أيضا لحجم التوقعات الهائلة التي يتوخاها السعوديون من الإيرانيين والعكس صحيح من أول اليمن وحتى إزالة أسباب التوتر المتراكمة حول البرنامج النووي والحضور الإيراني في الشؤون الخليجية والعربية.. إلخ.
ثانيا: الشرق الأوسط مازال أمريكيا حتى إشعار آخر: تطور إعادة العلاقات السعودية الإيرانية بوساطة صينية غير مسبوقة هو من المرات القليلة التي يجد فيها التحليل السياسي نفسه متعاطفا مع العبارة المكررة في عناوين الأخبار عن ردود الفعل الدولية تجاه تطور سياسي مهم وهو تعبير «ترحيب دولي حذر بنجاح الصين في إعادة العلاقات السعودية الإيرانية» فالحذر ضروري جدا بالفعل في عدم الاندفاع نحو توقع نتائج دراماتيكية من تصافح الأيدي الحار بين العيبان السعودي وشمخاني الإيراني وونج يي الصيني؛ فعندما ننظر بتمعن للتاريخ المتوتر والمتعرج المراوح بين الصراع والتنافس والتحالف لعلاقات إيران والسعودية أو النمط المتكرر لقطع العلاقات ثم إعادتها.
إن تاريخ العلاقات الدولية يكشف لنا عن ميل دائم بل إغراء لدى الدول تكرار النمط القديم في ممارسة علاقتهما الثنائية. ومن جرب القطع مرة لا يصعب عليه كثيرا تكراره ثم استعادة العلاقات.. وهكذا.
الطرف الثالث في قصة الأمس هو الوسيط الصيني، أيضا، هو أيضا يجبر التحليل السياسي على الحذر في التفاؤل باتفاق إعادة العلاقات بين أكبر قوتين اقليميتين في الخليج.
فمما لا شك فيه أن إلقاء الصين بثقلها العالمي المتنامي وراء هذه الوساطة واختيار إعلان الإتفاق في يوم تنصيب الرئيس شي بينج لفترة رئاسة جديدة في «رمزية سياسية» مقصودة للداخل والخارج هو تطور نوعي ومهم في اتجاه انخراط صيني أكبر في الشؤون السياسية الدولية وليس فقط في الشؤون الاقتصادية.. وهو أيضا بلا شك يمثل مزاحمة صريحة في المنطقة الأكثر حساسية لمفهوم الأمن القومي الأمريكي العالمي وهي الشرق الاوسط.
ولكن يظل الوقت مبكرا للغاية للقول بأن بكين فارقت سياسة «الحذر وتجنب المواجهة» مع الولايات المتحدة التي تتبعها منذ زيارة «نيكسون» التاريخية لبكين ١٩٧٢.
لهذا لابد أن يجد التحليل المتزن أسبابا عديدة للتحوط والتريث قبل أن يوافق على الاستنتاجات الخطيرة التي خرجت بصورة أو بأخرى ومن أماكن مختلفة في أركان العالم الأربعة.
-الاستنتاج الأول الذي لابد من التريث في الاندفاع نحو تعميمه هو استنتاج يلخصه تعليق باحث سويدي (أن الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط انتهت رسميا بعد هذا الاتفاق الذي رعته الصين) وتعليق آخر لباحث أمريكي محافظ يقول (لقد أزاحت الصين الولايات المتحدة من عرشها باعتبارها القوة الاستراتيجية الوحيدة في الخليج).
عندما نقارن التواجد العسكري والاتفاقيات والقواعد العسكرية لأمريكا المنتشرة في كامل الشرق الأوسط والعلاقات الاقتصادية والمالية المرتبطة بالبترو- دولار وارتباط العملات الخليجية بالدولار الأمريكي وفوائض الخليج المالية في الغرب والتسليح الغربي السائد لجيوش دول المنطقة عندما نقارن كل هذا مع العلاقات ذات الطابع الاقتصادي للصين مع المنطقة لابد أن نتعامل مع هذا التقييم على أنه مبالغة شديدة في التفاؤل.
ولكن هل من الممكن يوما ما الوصول إلى هذا التقدير بإزاحة أمريكا من عرشها الشرق الأوسطي الذي لم يجلب للعرب سوى التبعية وقليل من التقدم وجلب لإسرائيل التفوق والتقدم؟ وهل من الممكن أن تتطلع الصين إلى موازنته وربما التفوق عليه؟
الجواب نعم.. ولكن يحتاج ذلك إلى إرادة سياسية من فولاذ للطرفين الصيني والسعودي للتقدم في هذا الطريق رغم كلفته السياسية والاقتصادية المرتفعة المتوقعة على كليهما من ردود الفعل الانتقامية الأمريكية – الغربية إذا مضى في طريقه صاعدا إلى خطوات أبعد.
لماذا لم أذكر شيئا عن إرادة إيران رغم أنها الطرف الثالث في اتفاق بكين؟ ببساطة لأن طهران – رغم أي تحفظات – هي منذ الإطاحة بنظام الشاه عام ١٩٧٩ توجد خارج نطاق الهيمنة الأمريكية وتكاد تكون نصف خطط واشنطن للمنطقة في الـ ٤٤ عاما الماضية هي خطط قصد منها استعادة الهيمنة على هذا البلد شديد الأهمية جيوسياسيا.
بعبارة أخرى لا أجد الصين تقترب حتى من حماس الاتحاد السوفييتي للعب دور القوة العظمى أمام أمريكا في نظام القطبية الثنائية بعام ١٩٥٥ عندما قررت تحدي النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة فيما عرف بصفقة الأسلحة التشيكية وكسر احتكار السلاح الغربي مع مصر والسعودية أيضا في نمط البنية التحتية المؤسسة في العمق وفي الخيوط المتشابكة حتى مستوى التحالف الاستراتيجي مع الغرب، هي ليست أبدا مصر الخمسينات التي قطعت بقرار استيراد السلاح من موسكو وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي كل ارتباطاتها القديمة مع الغرب.
تحتاج بكين والرياض إلى وقت حتى يثبتا كل فيما يخصه أنهما على استعداد لمواجهة العواقب. استبدال الحذر مع أمريكا بالمنافسة المتدرجة بالنسبة للصين واستبدال التحالف الوحيد الكاثوليكي مع أمريكا بتحالفات متعددة مع كل القوى العالمية وبصورة متوازنة بما قد يعنيه ذلك من التجرؤ من جيل الدولة الجديد في المملكة على تعطيل مسارات عديدة في اتفاقات عبد العزيز/ روزفلت السياسية ١٩٤٣.
واتفاقات فيصل/نيكسون الاقتصادية والاستراتيجية ١٩٧٣. وهي في الحقيقة اتفاقات ارتبط بها تاريخ المملكة ودورها الإقليمي والعالمي في العقود الثمانية الماضية من عمر المملكة.
ثالثا: الاتفاق لن يوقف مسيرة التطبيع الإبراهيمي: الاستنتاج الثالث الذي يجب الحذر والتحوط منه ومعه هو أن اتفاق إيران السعودية سيوقف التطبيع العربي مع إسرائيل، فإذا تركنا المكايدة السياسية والحرب الأهلية السياسية الدائرة بين حكومة نتانياهو وأحزاب وصحف المعارضة والتي أقامت فيها الأخيرة جنازة «حارة» للنيل منه ومن حكومته بالزعم بأن الاتفاق السعودي الإيراني قد «دفن» مسيرة التطبيع العربي التي تعرف باتفاقات إبراهام. نجد أن الحقيقة تقول إن واشنطن بالتعاون مع إسرائيل ودول عربية قد خلقت خصوصا في الأعوام الستة الأخيرة بنية تحتية لهذا التطبيع يشمل مؤسسات سياسية وأمنية واقتصادية يمثل منتدى النقب ووثيقته وهياكله التنظيمية والتشارك العسكري العربي الإسرائيلي تحت القيادة المركزية الأمريكية نموذجا لها ولكن يتعداه ثنائيا وجماعيا إلى صور عديدة علنية وغير علنية.
وكان لافتا للنظر في هذا السياق أن التعليق الوحيد المثير للدهشة من الرئيس بايدن على اتفاق سعودي – إيراني بإعادة العلاقات!! هو ربطه بمزيد من التطبيع العربي – الإسرائيلي في إشارة واضحة أن الاتفاق لن يعطل المسيرة التطبيعية.
الأخطر من ذلك كان إصرار نتانياهو – الذي لا يستطيع حتى الساذج سياسيا أن يفترض أنه لم يكن عَلِم بمفاوضات استمرت نحو أسبوع في بكين لإعادة علاقات طهران والرياض – إصراره في نفس يوم إعلان الاتفاق صباحا أن يؤكد «هدفي هو تحقيق التطبيع والسلام مع السعودية، والإمكانيات الاقتصادية واضحة.. ربط سكك حديد المملكة العربية السعودية وشبه الجزيرة العربية عبر الأردن، بميناء حيفا.. الأمر يتطلب فقط إضافة 200 كيلومتر من السكك الحديدية لربط خط أنابيب نفط مباشر من شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأبيض المتوسط عبر إسرائيل.. وهذا يعني أنه يمكننا تقصير إمدادات الطاقة التي تحتاجها أوروبا بشكل كبير وتجاوز قناة السويس.. أعتقد أن هذه احتمالات حقيقية».
وقال أحد معاوني نتانياهو لموقع أكسييوس الأمريكي صراحة: حكومة نتانياهو غير قلقة أبدا من احتمال أن يعيق الاتفاق السعودي الإيراني ما أسماه بالجهود القائمة لتحقيق اختراق كبير في تطبيع العلاقات.