وصل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، إلى العاصمة العراقية بغداد، في زيارة هي الأولى من نوعها منذ ست سنوات، داعيًا العراقيين إلى “حوار شامل مفتوح، للتغلب على كافة التحديات”.
وكما يبدو، فإن زيارة غوتيرش المفاجئة.. رغم أنها جاءت تلبية لدعوة من الحكومة العراقية، تفتح الباب على عديد من التساؤلات، حول دوافع الزيارة بالنظر إلى ما يتمتع به العراق من أهمية جيوسياسية؛ خاصة وأن وضع البلاد مفتوح على احتمالات متعددة، بما فيها إمكانية تجدد الصدام بين القوى السياسية، الذي كان قد انتهى قبل أربعة أشهر. وخاصة في حالة استمرار التجاذبات السياسية التي يعيشها العراق، إلى جانب الأزمة المالية؛ جرّاء التباين في سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي، إلى جانب العديد من التداعيات
اللافت أن زيارة غوتيرش إلى العراق مطلع الشهر الحالي، قد حملت في طياتها عددًا من الملفات، تبدت بوضوح في إشاراته وتصريحاته عبر اللقاءات التي عقدها مع الشخصيات العراقية؛ إضافة إلى تنقلاته في أنحاء العراق، خاصة زيارته إلى إقليم كردستان العراق بعد زيارته إلى بغداد.
أهم هذه الملفات.. يمكن تناولها على النحو التالي:
أولًا: دعم حكومة السوداني سياسيًا ودبلوماسيًا؛ فمن بين أهم التصريحات التي أدلى بها غوتيرش، بعد لقائه رئيس الوزراء العراقي، جاء تأكيده على أن “الأمم المتحدة مستعدة لدعم حكومة العراق إزاء التحديات التي تواجهها”، مُعربًا عن “تفاؤله بما تقوم به الحكومة العراقية من جهود في جميع المجالات، بما في ذلك تركيزها على ملف مكافحة الفساد، وقرارها في إعادة النازحين إلى مناطقهم”؛ وهو القرار الذي وصفه بـ”الشجاع والإيجابي”.
والمُلاحظ، أن تصريحات غوتيرش تلفت إلى دعم المنظمة الدولية، من خلال أمينها العام، إلى دعم العراق عمومًا؛ وبخاصة دعم حكومة محمد شياع السوداني بشكل خاص وواضح. يأتي هذا، في وقت لم تستطع فيه الحكومة – مع الأخذ في الاعتبار قصر عمرها الزمني- من السيطرة على سعر صرف الدولار، وهو ما يمكن اعتباره إخفاقًا في وقف تهريب العملة لدول إقليمية تجاور العراق، مثل إيران وتركيا وسوريا. هذا، فضلًا عن تعثر الحكومة الواضح في عودة النازحين؛ حيث لا يزال هناك 1.2 مليون نازح في المخيمات، وفق ما ذكر موقع “الحل. نت”، نقلا عن إحصائيات “منظمة الهجرة الدولية” مطلع الشهر.
ثانيًا: محاولة تقريب المسافة بين بغداد وأربيل؛ إذ كانت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة إلى إقليم كردستان، بعد العاصمة بغداد، دافعًا وخطوة تشجيعية لتقريب “وجهات النظر” بين الإقليم والحكومة الاتحادية من جهة، وبين الأحزاب الكردية نفسها من جهة أخرى. وحول دور الأمم المتحدة في حل المشكلات العالقة بين بغداد وأربيل، أشار الأمين العام بعد اجتماعه مع رئيس الإقليم، إلى أن “الحكومة العراقية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، بحاجة إلى أن يجتمعا معًا لحل هذه المشاكل”؛ وقال “أُشجع حكومة كردستان للحوار، خاصة فيما يتعلق بالموازنة وقانون النفط والغاز”. لكن غوتيرش استدرك مُبينًا أن الأمم المتحدة “ليست في وضع يسمح لها باقتراح أي حل لأي طرف، لكنها تدعم العراقيين لإيجاد طريقهم للحل”.
ثالثًا: تأكيد أهمية استقرار العراق ودوره الجيوسياسي؛ حيث تأتي زيارة الأمين العام للمنظمة الدولية، لتُعبر عن اهتمام خاص من الأمم المتحدة بالعراق؛ خاصة أن هذ الزيارة تأتي بعد فترة من الزمن، تراجع خلالها الملف العراقي أمام الأمم المتحدة خطوات إلى الوراء، بسبب الأحداث التي استجدت في العالم، لاسيما الحرب الروسية الأوكرانية واستمرارها. ومن ثم، فالزيارة فتحت آفاق توجيه الأنظار مُجددًا إلى العراق، باعتباره دولة محورية في المنطقة، يمكن أن تلعب دورًا مهما في أية تطورات مستقبلية.
وبالتالي، لم تكن الزيارة بروتوكولية، إذ إنها تحمل أبعادًا كثيرة، أهمها ما يتعلق بالدور الجيوسياسي للعراق، وهو ما دفع غوتيرش لتكون بغداد وجهته؛ فالعراق يمتلك موقعا مؤثرًا في قلب “الشرق الأوسط”، خاصة بالنسبة إلى الدول الفاعلة فيه، مثل إيران وتركيا وسوريا، والخليج بدءًا من الإمارات والسعودية والكويت. وبالنظر إلى تقاطع المصالح الدولية، من حيث رغبة الخليج في تحجيم النفوذ الإيراني، ورغبة الدول الغربية في وضع حد لتمدد الصين، وحتى روسيا، فإن العراق يُمثل “المفصل” في هذا؛ بحيث لا يمكن معالجة نفوذ طهران، كمثال، دون البدء من بغداد.
رابعًا: الحد من النفوذ الإيراني في الداخل العراقي؛ فمن خلال اجتماع عقده غوتيرش في القصر الرئاسي ببغداد، مع الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، الأربعاء 1 مارس، عَبَّر غوتيرش عن سعادته لمُشاركة العراق في مؤتمر المياه في نيويورك، المُقرر في 22 من الشهر الحالي، لافتًا إلى أن الظروف في العراق “قد تغيرت الآن نحو الأفضل”؛ ومُشيرًا إلى أن “العراقيين متحدون، وبوحدتهم وتعاونهم يحولون دون التدخلات الأجنبية”.
بهذه الإشارة الأخيرة، التي لفت إليها غوتيرش، يبدو بوضوح ما يحاول الأمين العام للمنظمة الدولية التعبير عنه، من ضرورة وضع حد للتدخل الخارجي في الشأن العراقي؛ وهو بعبارة “التدخلات الأجنبية” إنما يضع اليد على “التدخل الإيراني” وتأثيره الواضح على الداخل العراقي. إذ، إن وضع الحكومة العراقية الحالية -إذا نُظِرَ إليه عن قُرب- يوضح أنها “متهمة” بقربها من إيران، ومن المفترض أن يُقابل هذا برفض أممي؛ خاصة أن “الأمم المتحدة” ذاتها من تتخذ إجراءات معينة بشأن طهران.
خامسًا: تفعيل عمل بعثة الأمم المتحدة في العراق؛ إذ، ضمن أهم الملفات التي حملتها زيارة غوتيرش إلى العراق، يأتي الملف الخاص بالتأكيد على أهمية عمل بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق “يونامي”؛ وهي كيان أنشِئ بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1500، في 14 أغسطس 2003. وتمتلك بعثة “يونامي” التفويض الرسمي لعملها، من خلال الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، ومن مهماتها تطبيق اتفاق العهد الدولي مع العراق، ودعم البلاد سياسيًا، ومواجهة الأزمات الناتجة عن الحرب ضد الإرهاب، وتقديم الدعم الإنساني للنازحين.
وبملاحظة، تصريحات غوتيرش خلال زيارته إلى العراق – نجد التشابه إن لم يكن التطابق، بين هذه التصريحات وبين نطاق عمل “يونامي”، بما يؤكد على محاولته في تدعيم عمل البعثة الأممية؛ حيث تتمتع البعثة بدور واسع في البلاد، وفق قرار مجلس الأمن الدولي الأخير، رقم 2631، في مايو الماضي، الذي جدد فيه مجلس الأمن ولاية عمل البعثة، حتى نهاية مايو القادم.
خطوة داعمة
في هذا السياق، يمكن القول بأن الأمين العام للأمم المتحدة، من خلال زيارته، قد قام بـ”خطوة داعمة” للعراق؛ أعطت هذا البلد قوة على المستوى السياسي والدبلوماسي؛ خاصة أن الزيارة تضمنت بحث عدد من الملفات ذات الطبيعة الجيوسياسية، أهمها الملف الأمني بما يخص مناطق التماس السياسي مع تركيا وإيران، وما يتعلق بدور الأخيرة وتأثيره على الداخل العراقي. هذا، إضافة إلى الملفات الخاصة بما يعايشه العراق على مستويي المياه والمناخ، وكذلك قضايا النازحين والتعهد الأممي بالعمل على إنهاء معاناتهم.
وبالمحصلة، فإن زيارة غوتيرش سوف تُلقي بظلالها على مستوى المشهد العراقي بأكمله، بدءًا من الملف السياسي وصولًا إلى الخدمي، وذلك بالتوازي مع ما يمكن أن تكون قد ساهمت به في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء المحليين، خاصة المشكلات العالقة بين بغداد وأربيل؛ من منظور أن كافة هذه الملفات تحتاج إلى دعم دولي وأممي، لتحقق الحكومة العراقية نجاحات فيها خلال المرحلة المُقبلة، وهو ما كانت تستهدفه الزيارة بالأساس.