بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة عُمان
الصراع العاري على السلطة والذهب والنفط الدائر في السودان الآن بين رجلين وجيشين تقف وراء كل منهما قوى محلية وإقليمية ودولية تغيب فيه مصالح الشعب السوداني الشقيق ويغيب فيه العقل ويحضر فيه جنون السلاح والقتل. هذا الغياب الفج يضع قيودا على المغامرة بتنبؤ قاطع بمآلاته ونتائجه.
كما لا تبدو هناك فائدة كبيرة من إعادة إرهاق ذهن القارئ بما بات معروفا عن جذور الصراع بين الطرفين وعلاقته بتاريخ السودان الحديث بعد الاستقلال والطابع المعقد للعلاقات المدنية-العسكرية الذي يميل لصالح العسكريين ثم علاقته بالنفوذ الطاغي لتيار الإسلام السياسي على الجيش والحكومة منذ انقلاب البشير -الترابي ١٩٨٩ والذي ما زال قائما رغم الإطاحة بالبشير قبل أكثر من ٤ أعوام.
لكن هذا المقال يحاول أن ينظر للصورة الأكبر Bigger Picture ويحاول أن يقدم قراءة «غير لحظية» لجذور ما حصل في السودان ضمن ثلاثة متغيرات عامة دولية وإقليمية لا تخص السودان فقط.
المتغير الأول: الذي يمكن وصفه «بتراجع» التأثير الغربي في العالم وضعف إرادة قيادتها الأمريكية وتابعتها الأوروبية في حل نزاعات دول الجنوب عموما وإفريقيا والشرق الأوسط خصوصا عندما تقارنه مثلًا في الوقت الراهن «بتقدم» التأثير الصيني على المسرح الدولي.
نظرة واحدة على الديناميكية الفعالة التي تحققها الوساطة الصينية في العلاقة السعودية-الإيرانية وفي النزاعين الكبيرين المرتبطين به وهما النزاع اليمني والنزاع السوري في الفترة الأخيرة تعطينا مثالا بالغ الدلالة.
ومنذ قيام دولة جنوب السودان ٢٠١١ ووقوع معظم موارد الثروة النفطية السودانية داخل حدوده عامة ومنذ اندلاع مرحلة الصعود والهبوط في الاستقرار السياسي في السودان بعد الإطاحة بنظام البشير خاصة.. تراجع الدور النفطي والاستثماري للصين في السودان وتراجع معه اهتمام وحضور بكين السياسي في الشأن السوداني. الأمر نفسه ينطبق على روسيا، فباستثناء اتفاق لم ينفذ منذ أيام البشير لبناء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر وأحاديث غير مؤكدة عن حضور ما لمجموعة «فاجنر» الروسية الأمنية في قطاع التعدين بالسودان لم يسجل لروسيا دور سياسي بارز في المشهد السوداني خاصة إذا قارنته بدورها المتزايد في إثيوبيا وأريتريا ومالي ودول أخرى عديدة في إفريقيا، وانتقل الملف السياسي لمعالجة سودان ما بعد البشير أي منذ ما يقرب من خمس سنوات كاملة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا ودول عربية حليفة لهما سواء عبر المجموعة الرباعية أو عبر المبعوث الخاص للأمم المتحدة والذين عملوا جميعا كوسيط بين القوى المدنية والعسكرية أو بين القوى التقليدية والحديثة في السودان. ورغم مرور أربعة أعوام ونصف العام تقريبا على انفراد أمريكا بالدور الأساسي ووجود كثيف للأمريكيين في السودان في جميع التخصصات قدره البعض بـ١٦ ألف شخص فإنها فشلت فشلًا ذريعًا في تحقيق أي تقدم لتسوية النزاع الدائر على ماهية سودان المستقبل.
ولم تستطع القوى الغربية الوسيطة كذلك منع انقلاب عسكري في أكتوبر ٢٠٢١ على حكومة حمدوك المدنية وتسببت بنود في الاتفاق الإطاري الذي صاغته القوى الغربية في ديسمبر الماضي -واعتبرته المؤسسة العسكرية اتفاقا غير متوازن- في إطلاق الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية الحالية رغم أن كل محفزات هذه الشرارة كانت واضحة وضوح الشمس أمام عيون المبعوثين الخاصين وممثلي وزارات خارجية ومخابرات الدول الغربية التي تتردد على السودان بشكل شبه مستمر.
ولا يعكس هذا الانحسار النسبي العام للنفوذ الأمريكي على الشؤون الدولية والذي يشمل أيضا تملص دول وأنظمة حليفة لها من سيطرتها ولكن يعكس أيضًا اضطراب وتأرجح الاقتراب الغربي من إدارة جمهورية لأخرى ديمقراطية ومن ظرف لآخر في التعامل مع الأزمات الإقليمية أو الداخلية مثل الأزمة السودانية مقارنة باستقرار في استراتيجيات موسكو وبكين في السياسة الخارجية.
فعلى سبيل المثال كان الغرب يقدم رجلًا ويؤخر أخرى في التعامل مع المشهد السوداني فمن ناحية هو يفضل التعامل مع الدولة السودانية ممثلة في الجنرال البرهان الذي يقود جيشًا نظاميًا أكثر ما تفضل التعامل مع الجنرال حميدتي الذي يقود ميليشيا عسكرية حتى وإن كانت انبثقت من داخل الدولة في عهد البشير، ولكن القوى الغربية في الوقت نفسه مرتبكة في الوقوف بحزم وراء البرهان إذ يساورها قلق من عودة البرهان المتزايد للاعتماد على الكوادر الإسلامية للنظام السابق في العامين الأخيرين، كما لم يستطع الغرب أو ربما لم يرغب في التأثير على سلوك حلفائه الإقليميين العرب وغير العرب الذين لهم مصالح في السودان والذين اتخذ كل منهم حلفاء سودانيين متصادمين وهو في سلوك يمثل في حد ذاته أحد أسباب اندلاع الصراع الدموي الحالي في السودان.
إذا: يمكن النظر للأزمة السودانية الحالية على أنها تعكس في جزء منها المتغير العالمي المتزايد والمتمثل في التراجع المتزايد في الدور الغربي وفشله في تقديم حلول سياسية للنزاعات حول العالم وأنها تعتبر مسؤولية غربية فادحة خاصة مسؤولية الولايات المتحدة.
المتغير الثاني: انتقال التدهور العربي من حالة زوال الحد الأدنى من المصالح المشتركة إلى التصادم الصريح بين هذه المصالح ورفض الاحتكام المعتاد إلى الخط الأحمر في النزول على منطق الجيواستراتيجية كعازل يخفف من هذا التصادم:
مع انهيار مفهوم الأمن القومي العربي بعد واقعتي التسوية المنفردة مع إسرائيل في السبعينيات من جهة وغزو العراق للكويت في التسعينيات من القرن الماضي، من جهة أخرى.. جاء متغير خطر انهيار الدولة الوطنية أو القُطرية العربية وجاء معها انقلاب صريح في الأدوار الإقليمية سواء بين الأطراف العربية نفسها فيما كان ما يسمى بالنظام الإقليمي العربي، فأصبحت القوى التي كانت تقود تابعة.. وأصبحت القوى التابعة هي التي تقود. الانقلاب نفسه حصل بين الأطراف العربية ككل من ناحية والأطراف الإقليمية الشرق الأوسطية غير العربية خاصة إيران وتركيا وإسرائيل من ناحية ثانية.
أدى تراجع دول إقليمية كبرى وتقدم دول أصغر حجمًا إلى اضطراب شديد سمح بتطلعات لأدوار منطقية وغير منطقية منضبطة أو جامحة بخبرة أو بدون خبرة معتمدة فيها على عناصر قوة مستقرة أو عناصر طارئة.. على طموحات قادة أكثر مما هي طموحات دول. كانت نتيجة كل ذلك هو سقوط الخط الأحمر القديم في احترام قضية الجوار الجغرافي والدور التقليدي لكل دولة عربية في محيط جوارها المباشر. هذا الخط الذي عمل في السابق كعامل كابح أو مقيد دور لتدخل دولة عربية أخرى في شؤون هذا الجوار.
السودان بثروته الطائلة الزراعية والنفطية والتعدينية وموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر وبوابة لإفريقيا ووضعه السياسي الهش الذي يسهل للخارج عملية تجاوز الدولة والتحالف مع مكونات سياسية أو عسكرية أو قبلية أو جهوية داخلية وتحويلها لحلفاء لهذا الطرف الخارجي أو ذاك، كان نموذجا محبطا وحزينا على تآكل مفهوم الأمن القومي فهناك أطراف عربية تدعم البرهان وأطراف أخرى تدعم حميدتي وهناك من يعتقد أن دعمه لأحد أطراف الصراع الداخلي في السودان يمكنه من الفوز بالنصيب الأكبر من التجارة مع السودان في مجالات الذهب والنفط والنحاس واليورانيوم ومن امتيازات الموانئ.. إلخ. وهناك من يعتقد بأن عليه تشجيع هذا الفريق لإعلاء نفوذ تيار أيديولوجي بعينه كتيار الإخوان والإسلام السياسي.
ومن المضحكات المبكيات في الأزمة السودانية الحالية أن تجد دولا عربية تقف على طرفي نقيض من بعضها البعض على الأقل منذ ما عرف بالربيع العربي.. تجدها متفقة في دعم فصيل من فصيلي الأزمة السودانية ودولا عربية حليفة إقليميا تؤازر بعضها بعضا تقف في السودان كأعداء وليس كحلفاء فيدعم كل منها فصيلا مختلفا مهما تسبب ذلك في الإضرار بحليفه الإقليمي.
من المضحكات المبكيات أيضًا أن إسرائيل تملك تأثيرا في الأزمة السودانية الراهنة يفوق تأثير عدد كبير من الدول العربية إذ تجمع تل أبيب علاقات وثيقة مع الطرفين المتصارعين أي الجيش وقوات الدعم السريع اللذين يختلفان الآن في كل شيء ولكن يتفقان في شيء واحد هو قبول التطبيع المكشوف معها لدرجة تجعل نتنياهو قادرا على طرح نفسه كوسيط في الأزمة.
بعبارة أخرى فإن النزاع في السودان في جزء منه هو مسؤولية عربية فادحة وهو انعكاس للصراعات العربية-العربية وانفلات هذه الصراعات من أي رشد أو رادع من روادع الأخوة العربية بل حتى لوجود تحالف قائم بين هذه الدولة أو تلك في قضايا أخرى.
المتغير الثالث: تزايد الفروق بين ضباط حركة التحرر الوطني من الاستعمار وضباط ما بعد دولة الاستقلال في بعض دول العالم الثالث:
باستثناء الدول الملكية فإن دولا عربية وإفريقية وآسيوية عديدة انخرطت جيوشها أو جزء من جيوشها في السياسة وبالتحديد في عملية التحرر والاستقلال الوطني من الاستعمار ثم في دولة ما بعد الاستقلال. وفي هذه الدول يمكن تقسيم مشاركة الجيوش إلى مرحلتين متباينتين أشد التباين.
المرحلة الأولى: لعبت فيها الرتب المتوسطة وأحيانا حتى الصغيرة دورًا أساسيًا في قيادة التغييرات السياسية كفاحًا أو مفاوضة مع الدولة الاستعمارية القديمة للخروج من السودان وتحقيق الاستقلال.
حمل بعض هؤلاء الضباط مشروعات الوحدة الوطنية والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية ولكن في كل الأحوال نأوا بأنفسهم عن الجمع بين السلطة وموارد الثروة الوطنية لبلادهم.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة ما بعد انكسار حركة التحرر الوطني في العالم الثالث وفيها سيطرت الرتب الكبيرة على مقاليد الأمور واتخذت نهجًا محافظًا وتقليديًا يرتبط بالغرب وإسرائيل خارجيا ويحقق مصالح الفئات الاجتماعية الأكثر غنى داخليًا والأهم أنه يجعل هؤلاء القادة منخرطين بقوة في التنافس على الاستحواذ على الموارد الاقتصادية للسودان خاصة الموارد الطبيعية والعقارات والأراضي الزراعية والسكنية.
الصراع في السودان في جزء منه هو صراع بين طرفيه المحليين على ذهب ونفط ويورانيوم ونحاس مناطق مثل جبل عامر في دارفور وفي جنوب كردفان ومناطق نهر النيل شمال الخرطوم، فضلًا عن أراضي السودان الزراعية والعقارية، إنه صراع أيضا على من يستحوذ قبل الآخر على المساعدات المدنية والعسكرية القادمة من المانحين الدوليين والعرب.
أي أن الصراع السوداني القائم تعبير في جزء مفصلي فيه عن متغير ثالث أكبر تبلور في العقود الأربعة الأخيرة ولحق بطبيعة النظم العسكرية أو بالنظم ذات المكون العسكري الطاغي في العديد من دول الجنوب فلم تعد هذه النظم حاملة لمشروع كبير وطني بل لمشروعات صغيرة شخصية/ قبلية/ أيديلوجية.. إلخ.
ولم تعد تكتفي بالسلطة وإنما باتت تعتبر السلطة مدخلًا للحصول على الموارد المالية وتعتبر الموارد المالية مدخلًا لترسيخ بقائها في الحكم وبالتالي تعتبر النخبة العسكرية الجديدة المحافظة المنخرطة في الجمع بين الثروة والسلطة مسؤولة مسؤولية فادحة عما يحدث في السودان.