كتبت هذا المقال الموجز لنفسي، ولمن يعتقد -ربما مثلي- من الباحثين في أهمية العودة إلى النظريات العلمية؛ للبحث فيها عن أي ضوء قد يساعد على فهم الواقع. وقد حملني على القيام بذلك ما يجري في السودان، وفي المنطقة عموما، من أحداث باتت -في حد ذاتها- لغزا، رأيت أنها باتت تستوجب التفتيش في معارفي النظرية القديمة، لفهم ما يعيشه عدد ليس بقليل من دول المنطقة من هشاشة وضعف وتخبط، لعلي أضع يدي على سببه وألتمس كذلك مخرجا منه. فكان أن جمّعت من الذاكرة ما يلي:
- نظرية الدولة المسبية Capture State Theory وتُرجع فشل الدولة إلى استئثار قلة من الأفراد أو جماعة مصالح بعينها بالدولة وبمقدراتها – على حساب عموم الناس.
- نظرية الدولة المارقة Pariah State Theory وتعزي حالة الدول الهشة إلى ما يفرضه النظام الدولي عليها من عقوبات، تصل أحيانا إلى حد الحصار والمقاطعة الكاملتين، بسبب السياسات المتطرفة التي تتبعها، والتي تهدد السلم الإقليمي والدولي وتستوجب التشدد في التعامل معها لحملها على تغيير سياساتها.
- نظرية الدولة المتمردة Rogue State Theory وهي قريبة من النظرية السابقة، لكنها لا ترد ضعف الدولة إلى العقوبات الدولية المفروضة عليها؛ وإنما إلى الصور السلبية المقرونة بها، والتي تدفع الخارج إلى الحذر منها دون الوصول بالضرورة إلى مقاطعتها بالكامل.
- نظرية الدولة الفاشلة Failed State Theoryوتنسب هشاشة الدولة إلى غياب منظومة واضحة وقوية للحوكمة، سواء من القوانين والقواعد الإجرائية الرادعة أو السياسات العامة الناجزة والمنصفة.
- نظرية دولة الظل Shadow State Theory وترد ضعف الدولة إلى اختراق كيانات خارجية لسيادتها وتدخلها في شئونها؛ لتتحكم في مقدراتها عن طريق قوى داخلية تُمكّن. وعادةً ما يجري ذلك عبر تشجيع حركات انفصالية أو دعم تكوينات عرقية أو دينية، تتحول تدريجيا إلى دولة ظل تتحكم في الدولة الرسمية.
- نظرية الدولة الموازية أو البديلة Parallel / Alternative State Theory وتفسر ضعف الدولة بأنه، ناجم عن وجود أطر بديلة أو موازية للدولة الرسمية على هيئة قوى غير رسمية، تمتلك من القوة ما يكافئ أو يزيد عن القوة التي تملكها المؤسسات الرسمية، بما يُمكّن تلك القوى الموازية من التحكم في جهاز الدولة وتشغيله لحساب مصالحها ورؤيتها.
- نظرية الدولة الألعوبة Puppet State Theory وتفترض أن هشاشة الدولة تقع بمجرد تحولها إلى ألعوبة في يد قوى خارجية تحيلها إلى وكيل تابع وجسد خاضع لإرادات أجنبية.
- نظرية الدولة الهجين Hybrid State Theory وتعزي ضعف الدولة إلى تبنيها تنظيما سياسيا هجينا؛ يجمع بين السمات التسلطية والسمات الديمقراطية، ما يتسبب في خلق بيئة سياسية مضطربة لا تراعي قواعد الحرية الليبرالية، ولا تسير وفق آليات الهيمنة السلطوية، ما يتسبب في تخبط جهاز الدولة ومن ثم تعطّله.
- نظرية الدولة المستأجرة Rented State Theory وتعتبر أن ضعف الدولة يرجع إلى قيام المسئولين فيها، برهن وتأجير ما تمتلكه من موارد ومقدرات ومنافع، إلى قوى أجنبية مقابل تحصيل إيجار منهم عن ذلك، ولا يدخل إلى الخزانة العامة من تلك الإيجارات شيء يذكر لأنه يعود بالنفع على متنفذين محليين تربطهم علاقات إيجارية واسعة بالقوى الخارجية.
- نظرية الدولة الريعية Rentier State Theory وهي الأكثر انتشاراً في تحليل الدولة في المنطقة العربية، ولا تبتعد كثيراً عن النظرية السابقة، وتعيد ضعف الدولة إلى ركونها إلى توفر موارد مجانية وهبتها الطبيعة، مثل النفط، بدلاً من الاعتماد على الإبداع والعمل وبذل جهد إنتاجي متواصل، الأمر الذي يشيع ثقافة متكاسلة تنمو معها مختلف صور وممارسات الفساد.
- نظرية الدولة اللا وظيفية Dysfunctional State Theory وتركز على جهاز الدولة وما يعانيه من قصور في الأداء، معتبرةً أن الفشل ينجم عن سوء الإدارة والعجز عن قيام المؤسسات بالأدوار المنوطة بها.
- نظرية الصراع Conflict Theory وتعيد ضعف الدولة إلى عدم توقف الصراعات فيها سواء كانت على السلطة أو الموارد أو إلى ما يجري فيها من صراعات أيديولوجية وعرقية ودينية.
- نظرية بناء الدولة State Building Theory وتركز على خمس أزمات هي الهوية والتكامل والتوزيع والشرعية والتدخل وتعتبر أن عدم حسمها عند تأسيس الدولة هو الذي يعرقل استقرارها ويتسبب في هشاشتها.
- نظرية التنمية Development Theory وتعتبر أن عدم تحقيق معدلات نمو اقتصادي مناسبة بجانب الإخفاق في الوصول بالتنمية إلى القطاعات الاجتماعية العريضة هو المسئول عن ضعف تماسك الدولة والسبب الأبرز في هشاشتها وضعفها.
- النظرية المؤسسية Institutional Theory وتركز على عجز المؤسسات الرسمية وغير الرسمية معا، وليس فقط جهاز الدولة المباشر، عن القيام بأعبائها جنبا إلى جنب مع غياب إطار كلي للتنسيق بين أدوارها.
- نظرية الأمن الإنساني Human Security Theory وتؤكد على أن فشل الدولة يحدث عندما يفتقر سكانها إلى مقومات الحياة والحماية والأمن ويشيع فيها العنف والفقر والجهل والمرض.
- نظرية أشباه الدول Quasi States Theory وتعتبر الدول الهشة، دولا بالاسم والمجاز فقط. أما في الواقع فهي كيانات مشوهة تعتمد على التحالف بين قوى داخلية وأخرى خارجية تحد من سيادتها وتعيق مؤسساتها.
- نظرية التحديث Modernization Theory وتذهب إلى أن فشل الدولة يعود إلى غياب مشروعات وبرامج جريئة تجدد القيم والمؤسسات معا، ما يتيح للهياكل والقيم والمؤسسات التقليدية إعاقة إعادة بناء الدولة وفق قواعد عقلانية رشيدة.
- النظرية الديمقراطية Democratic Theory وتعتبر الدولة الرخوة، نتاج للقهر والتسلط وغياب المشاركة وعدم احترام حقوق الإنسان، وغياب عملية سياسية مستقرة ومفتوحة، تضمن رقابة المجتمع على تصرفات القائمين على أمر الدولة.
- نظرية دولة ما بعد الاستعمار Postcolonial Theory وتنسب ما تعانيه دول العالم الثالث من فقر وضعف وهشاشة، إلى التجربة الاستعمارية القاسية التي مرت بها، وما خلفته من مواريث سلبية ما زالت تحد من قدرة تلك الدول على الحركة سواء داخل حدوها أو في النظام الدولي.
- النظرية الثقافية Culturalist Theory وتعالج هشاشة الدولة على أنها امتداد لهشاشة القيم والمعايير الحاكمة للثقافة السياسية، التي تؤثر على مدركات وفهم وتصرفات المؤسسات والنخب السياسية والفكرية والجسد السياسي والإداري والمجتمع بأكمله.
ذلك بإيجاز هو ما ذهبت إليه أكثر من عشرين نظرية. أما النتيجة فتبقى كما هي. لقد تعددت النظريات والهشاشة واحدة. تراكمت دون أن يتغير الحال. وإذا كان من حق كل باحث أن يتبنى منها ما يشاء أو يجمع من بينها ما يحب، فعليه أن يحذر من أن الحل ليس في واحدة منها أو حتى فيها كلها. فالنظريات مهمة لكنها ليست كافية. قد تساعد على الفهم وقد تزيد من صعوبته، وكما تحاول أن تمسك بطرف خيط يقود إلى الحل قد ينتهي بها الأمر إلى قطع الحبل تماما، مع أي حل. النظريات اجتهادات ولهذا من حقها أن تترك الأسئلة بدون إجابة وألا يلومها أحد على ذلك؛ طالما أن الواقع سيتكفل في يوم ما بالكشف عن الإجابة كاملةً.