لا ينطلق عمل في غيبة الفلسفة الرائدة والموجهة الواضحة المعالم؛ إلا وارتد خائبا.. فالفلسفة ترى الواقع وفق معطياته الحالية بوصفها جملة من التفاعلات تشكلت عبر أمد من الأحداث والتراكم المعرفي والخبرة الإنسانية؛ لتتبصر مآلاته وتضع صيرورته في إطار ما هو محتمل، إنها تستبين السبيل، وترسم الخط على امتداده، وتشعل جذوة العقل ولا تتركه خاملا في مواجهة مستقبل غامض.
دور الفلسفة التربوية في تعزيز قيم المجتمع
والفلسفة التربوية لا يجب أن تكون منبتة الصلة عن الفلسفة الاجتماعية العامة التي تمثل رؤية المجتمع الكلية الحافظة لقيمه والملبية لمتطلباته في التقدم والرخاء والرقي؛ كما يجب أن تكون ذات قابلية كبيرة لاستيعاب المتغيرات الاجتماعية، والتدفق المعرفي الهائل في كافة المجالات.
وتعرَّف الفلسفة التربوية بأنها تطبيق للنظريات والأفكار الشاملة المتصلة بالحياة في ميدان التربية وتنظيمها في منهج خاص من أجل الوصول إلى الأهداف التربوية المراد تحقيقها، فالفلسفة التربوية عبارة عن أفكار فلسفية عامة ونظريات ورؤى صالحة للتطبيق في ميادين مختلفة تصاغ في مناهج وطرق وأساليب؛ سعيا لبلوغ غاية تضيف للمجتمع قوى واعية وفاعلة، وهي مستمدة من نظريات الفلاسفة والمفكرين التربويين، في حدود الخصوصية الثقافية وتحديات الراهن.
تنوع الفلسفات التربوية
وقد تعددت الفلسفات التربوية بين مثالية وواقعية وتجديدية وبراجماتية وأخري ترتكز على القيم الدينية، وقد اتسم طابع بعض هذه الفلسفات بالجمود كالمثالية، وفلسفة الملكات النفسية، ومنها ما كان أكثر مرونة وقدرة على التفاعل ومتغيرات الواقع، إلا أن الحقيقة تقتضي القول بأن الالتزام بأي من هذه الفلسفات كان يستدعي احترام أنساقها وعدم الخروج عنها في قليل أو كثير مما أظهر جوانب ضعف وقصور في التطبيق لا نهاية لها.
في واقعنا العربي لا توجد فلسفات تربوية واضحة المعالم يمكن لها أن تؤتي أكلها، بل نرى تشوهات لا تربوية تعبر بجلاء عن عمق الأزمة التربوية التي لم تتخلف عن مثيلاتها في شتى مناحي حياتنا المصطخبة بالعشوائية، وغياب الرؤية العلمية، حتى أن بعض الدول التي عملت على تحديث أنظمتها التربوية- ربما بدافع الوفرة فقط، أو ذرًا للرماد في العيون- اقتصر ما قامت به من جهود على التحديث الشكلي الذي شمل المباني والتجهيزات وإدخال التقنيات الحديثة، دون العمل على بث روح الحداثة القادرة على تكوين شخصية المواطن العربي؛ بشكل يتيح له مواجهة التحديات والتفاعل مع عصر ما بعد الحداثة بكافة معطياته.
التوظيف الأيدلوجي للمؤسسات التربوية
تمثل المؤسسات التربوية ركيزة كبرى في بناء وبقاء الأنظمة السياسية.. لذا سعت الأنظمة الشمولية إلى استخدامها بصورة مكثفة لإخراج أجيال مدجنة، لا تعرف حرية التعبير، ولا تسعى إلى التغيير؛ فتنشأ متقبلة للعسف، لا يؤرقها الاستبداد، على استعداد تام لتكون جزءا من آلته الباطشة.
وبدلا من أن تلعب تلك المؤسسات الدور المنوط بها في دعم وتعزيز القيم الإيجابية كالإخاء والمساواة وتكافؤ الفرص والديمقراطية؛ صارت تحت حكم تلك الأنظمة أداة تمييز وقهر، مساهمة بأسوأ الأدوار في تكريس الظلم الاجتماعي والنبذ الطبقي والطائفي.
ويرى بعض التربويين أن المؤسسات التربوية العربية التي وظفت أيدلوجيا، ما زالت تلعب دورا يعزز اتجاهات التسلط والإكراه والانتقائية في الوطن العربي إلى حد بعيد، وهي تعمل بآليات تدعم قيم التمايز والاصطفاء، وتعطل بصورة عامة اتجاهات العمل الحر والإبداع والنزعة العقلية وتحقيق التكامل في الشخصية الإنسانية، أما الحداثة الحقيقية التي تتصل بجوهر العملية التربوية فلم تنشغل بها الفلسفات التربوية العربية؛ لذلك أضحت خارج حركة التحولات الكبرى من حولها.
الغايات الرئيسة للفلسفة التربوية
فإذا كانت الفلسفات التربوية على تنوعها تتفق على غايات أربع رئيسة يمكن إجمالها في: إكساب المعرفة، وتنمية الذات والقدرات الشخصية، والتكيف مع الحياة، وحديثا ضرورة إعداد إنسان العصر؛ لمواجهة مطالب الحياة في ظل العولمة- فإننا نلحظ غيابا واضحا لتلك الغايات في الفلسفات التربوية المعتمدة في معظم أقطار الوطن العربي، وهو ما يؤكد غياب الرؤية الاستراتيجية عن أهم مجالات الحياة حيوية في راهننا العربي.
إن ما نراه الآن من انهيار واضح في المنظومة التعليمية قد أدى إلى انحطاط مستوى المنتج التعليمي على نحو ملحوظ؛ حتى صرنا نرى الكثير من حملة الشهادات العليا يعانون من أمِّيَّة كتابية، والكثير منهم أيضا لا يمتلك من الثقافة والوعي ما يؤهله لفهم أبسط الأمور؛ فكان من نتائج ذلك تدني الكفاءة بشكل واضح في العديد من المؤسسات، خاصة أن هذه النوعية تلجأ دائما إلى الأساليب غير الشريفة من أجل الترقي وتولي المناصب.
ويبدو إفساد الأمر على هذا النحو – في احيان كثيرة- وكأنه متعمد.. ربما بهدف السيطرة على العقل الجمعي، وإخضاعه بصورة كاملة للآلة الإعلامية الجبارة التي تعمل ليل نهار على إغراق العقول في مستنقع الاستهلاك والتسليع والتفاهة والضحالة الفكرية، وهدم كل قيمة جادة ومثمرة.
ويشير الكاتب الكندي آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة” إلى أن هذا الإفساد المتعمد صار نهجا كونيا من خلال عملية استبدال هائلة، صارت المهنة في إطارها مجرد وظيفة تؤدى بطريقة أقرب إلى الآلية؛ ليتحول المثقف العضوي صاحب القدرة على التأثير إلى مجرد خبير يمكن استئجاره.. بينما تتحول الدول في صمت إلى شركات كبرى؛ ليصبح المواطنون مجرد زبائن بلا حقوق تقريبا!
ولا شك إن قراءة الواقع على هذا النحو لابد أن تدفعنا دفعا إلى مراجعة الفلسفة التربوية المؤسسة للسياسات التعليمية في أقطارنا العربية، والتي تبدو في حالة غياب تام إلا فيما ندر؛ وذلك بهدف إعادة صياغتها وفق رؤية علمية واضحة، على طريق إعادة تشكيل هذا الركام؛ تأسيسا لعملية تعليمية تقوم على احترام الخصوصية الثقافية للهوية العربية، ولا تتعارض وقيم الحداثة ولا تفتقر إلى آليات فاعلة للمواجهة، خاصة وأننا قد كاثرنا علينا الأعداء؛ حتى صرنا فرائس لكل ذي ناب.