الحديث عن تسخير الشَّمْس وَالْقَمَر، وارتباط تسخيرهما بـ “أَجَلٍ مُسَمًّى”، يأتي في أربعة مواضع في آيات التنزيل الحكيم؛ إلا أنه يأتي في واحد من هذه المواضع مصحوبًا بحرف الجر (إلى) في حين يأتي في المواضع الثلاثة الأخرى مصحوبًا بحرف الجر (اللام) بما يعني أن ثمة اختلاف في تعدية الفعل بحرف الجر (إلى) وتعديته بحرف الجر (اللام).
ولعل هذا ما يُثير تساؤلات متعددة أهمها، ما يتعلق بالاختلافات، من حيث الدلالة بين الحرفين، ودخول كل منهما على الاصطلاح القرآني “أَجَلٍ مُسَمًّى”، في المواضع التي أشير إليها؛ هذا بالإضافة إلى الفارق بين “يَجْرِي إِلَى”، و”يَجْرِي لـ”؛ وغير ذلك من تساؤلات.
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
كنا قد وصلنا في حديثنا السابق إلى أن التسخير هو: “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”؛ وأن الأجل هو: المدة المضروبة للشيء؛ والمُسمى: المحدد؛ ومن ثم فـ”الأجل المُسمى”: هو “المدة المُحددة للشيء أو الظاهرة في حركتها من الماضي إلى المستقبل”.
ونضيف هنا أن هذا هو ما يتأكد من خلال قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ” [الأنعام: 2] إذ إن “وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ” تؤكد المدة المحددة لـ”الأجل المُسمى” عند الله عزَّ وجل؛ وأن هناك فارق بين “أَجَلًا”، وبين “أَجَلٌ مُسَمًّى” بدليل ارتباط هذا التعبير الأخير بـ”عِنْدَهُ” سبحانه وتعالى.
ثم إننا وصلنا في حديثنا السابق أيضًا إلى دلالة حرف الجر (إلى) عند الحديث عن الموضع الأول، الذي ورد فيه تعبير “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى” وذلك من خلال سياق الآية الكريمة [لقمان: 29].. حيث يقول جلَّ جلاله: “أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”.
إذ، بملاحظة السياق العام للآيات القرآنية، التي ترد فيه هذه الآية الكريمة، يتبدى بوضوح أن “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، يأتي في سياق يبدأ بقوله سبحانه: “لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” [لقمان: 26] ويستمر إلى أن يصل إلى قوله تعالى: “… وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [لقمان: 34]. وفي ما بينهما، يأتي ذكر اثنتين من الدوال على غاية ما ينتهي إليه “الخلق”.
الدالة الأولى، هي قوله سبحانه: “مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ…” [لقمان: 28]؛ أما الثانية، فهي قوله تعالى: “يَاَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا…” [لقمان: 33].. والمُلاحظ أن “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى” [لقمان 29]، ترد بين هاتين الدالتين. وبالتالي، فإن “إِلَى”، في مثل هذا السياق، تؤشر إلى المصير وتدل على الانتهاء. وهو ما يعني، أن: “وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، تدل على أن كل من الشمس والقمر سيظل جاريًا، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المُسمى له.
ولعل دلالة حرف الجر (إلى) بهذا المعنى، تتأكد عبر تدبر قوله سبحانه: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…” [البقرة: 282] وكذلك من خلال قوله تعالى: “وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” [النحل: 61].
(إِلَى) إذًن تؤشر إلى المصير وتدل على الانتهاء.. فماذا عن “يَجْرِي لـ”، أي عن تعدية الفعل بحرف الجر (اللام)؛ وماذا عن “لِأَجَلٍ مُسَمًّى”؟
لِأَجَلٍ مُسَمًّى
لغة قد تُفيد (اللام) التعليل وبيان السبب، كقولنا: أدرس لأنجح؛ وقد تفيد الاختصاص وبلوغ الغاية، كقوله سبحانه وتعالى: “وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ” [يس: 38]. إذ إن دلالة (اللام)، في “تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا” أنها تجري لهذه الغاية، أي تجري لغرض وصول الهدف “مُسْتَقَرٍّ لَهَا” وبلوغه.
هذه الدلالة، تتبدى بصورة واضحة في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” [غافر: 67]؛ حيث تأتي “اللام”، هنا، لتبيان الغاية والاختصاص بهدف محدد، كما في قوله سبحانه: “ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ”؛ وكما في قوله تعالى: “ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا”.
ولنا أن نلاحظ حرف العطف (ثُمَّ) الذي يرد في سياق الآية في مرات خمس، للدلالة على الفترة الزمنية الطويلة نسبيًا، بين كل مرحلة والتي تليها؛ كما لنا أن نلاحظ، في الوقت نفسه، دلالة (اللام) في قوله عزَّ وجل “وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى”، من حيث كونها تدل على بلوغ “الأجل المُسمى” كهدف محدد. لنا أن نلاحظ أيضًا أن سياق الآية الكريمة يتحدث عن مراحل “خلق الإنسان” ومن ثم، فإن الأجل المُسمى هو الغاية التي تختص بها مسيرة الخلق ومراحلها تلك.
وبالعودة إلى تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر”، وارتباط تسخيرهما بـ”أَجَلٍ مُسَمًّى”، لنا أن نقترب من مواضع ورود “يَجْرِي لـ”، أي تعدية الفعل بحرف الجر “اللام”؛ ليرتبط بـ”ِأَجَلٍ مُسَمًّى” للدلالة على الاختصاص وبلوغه كغاية.
يقول سبحانه وتعالى: “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ” [الزمر: 5]؛ وكما يبدو فإن مفتتح الآية الكريمة هو “خَلَقَ”، أي البداية “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ”؛ ولذا جاءت تعدية الفعل بحرف (اللام) فقال سبحانه: “يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى”، لأن الحديث هنا عن البدايات، عن “خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ” (بتسكين اللام في خَلْقَ).
وهنا أيضًا يبدو الفارق بوضوح بين تعبير “لِأَجَلٍ مُسَمًّى” عند الحديث القرآني عن البدايات، عن الـ”خَلْقَ”؛ وبين الحديث القرآني عن المصير والانتهاء، التي يرد عندها تعبير “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، كما في سياق الآيات الكريمة في سورة [لقمان: 26-34]، السياق الدال على غاية ما ينتهي إليه الـ”خَلْقَ”.
وللحديث بقية.