كان أمس الأحد اليوم الأخير في رحلة الإنسان طارق عبد العزيز.. رحلة قصيرة لم تستغرق سوى خمسة وخمسين عام وأقل من أربعة أشهر.. رحلة أتاحت لنا التعرف على نموذج فريد لفنان أخذ موقعه مدافعا عن نبل الغاية الفنية بصدق أداء وموهبة حقيقية وحضور واع يملك من التأثير الكثير على القلب والعقل معا.
إجماع من كل من عرف طارق عبد العزيز، على أنه كان كتلة من الود والمحبة والكرم؛ تمشي على الأرض.. يغمر كل من حوله بدفء مشاعره الفياضة التي تشبه رحلة النيل العظيم الذي سار معه من الجنوب.. من سوهاج حيث ولد طارق، إلى القاهرة حيث استقر ووعى الدور والرسالة.
يدرك المرء بحسن الخلق ما لا يدركه بغيره.. حكمة أهداه إياها والده معلم اللغة العربية الذي كان حياؤه وتعففه وعزة نفسه مضرب الأمثال في محيط عمله أثناء إعارته في المملكة العربية.. يذكر طارق هذا المشهد نهاية السبعينات وهو بصحبة أبيه في تلك البلاد؛ حين تشاجر الصبي مع طفل من أترابه.. ليكتشف الفتى بعد ذلك أن الطفل ابن أمير المنطقة.. عزم الأمير على الانتقام لابنه الذي يبدو أنه أُوسع ضربا؛ لكنه فور علمه أن الطفل المتهم في الواقعة ابن الحاج عبد العزيز المعلم المصري الدمث؛ تراجع على الفور مُعنفًا ولده كيف يشكو ابن هذا الرجل، وهو منه بمثابة الأخ.
درس طارق الحقوق في جامعة عين شمس، لكن مدرسته الفنية العظيمة كانت مسرح كلية الحقوق جامعة القاهرة؛ قبل أن يصبح مبكرا عضوا في فرقة الورشة بقيادة الفنان حسن الجريتلي مع نخبة من المبدعين من أصحاب الموهبة النادرة على رأسهم عبلة كامل وسيد رجب وأحمد كمال.
“لا أرتاح يا ولدي لعملك بالفن، ولا أتصور أن يكون الفن مصدر دخلك الوحيد طوال حياتك” هكذا صارحته أمه.. محبة طارق للفن كانت محبة خالصة مبرّأة عن حب الشهرة أو المال.. محبة نابعة من إيمان عميق بدور الفن الذي يستطيع أن يحمل الكلمة للجموع.. لكنه وهو الابن البار، لا يتحمل هذا القلق الذي يكسو ملامح الأم، تؤلمه نبرات صوتها المتهدج وهي تدعو الجريتلي، ومعاونيه إلى الانصراف عن طارق وتركه ليمضي بعيدا عن طريق الفن. استجاب الفنان لنداء أمه وتوقف عن العمل الفني “الاحترافي” لنحوٍ من سبع سنوات، مارس فيها العمل في مجال “البيزنس” لكنه لم ينقطع نهائيا عن تلبية شغفه من خلال المشاركة في مسرحيات الثقافة الجماهيرية وفق ما تتيحه له ظروف عمله.. لكن الأم الرءوم ما لبثت أن اقتنعت بأن طارق ولد ليكون فنانا مؤثرا تنفتح له قلوب الملايين ليقول كلمته بصدق وأمانة وتجرد؛ فيكون لها فعل السحر في القلوب وأثره في العقول.. تحفّظُ الوالدِ أيضا تبدّد رويدا، بعد شهادات الناس للابن بتقديم فن راق ذي رسالة لا إسفاف فيه ولا ابتذال.
بداية الانطلاق الحقيقية ربما كانت مع “صعيدي في الجامعة الأميركية” توالت بعد ذلك المشاركات السينمائية في “همام في أمستردام” و”فيلم ثقافي” ثم دوره المتميز والذي لفت إليه الأنظار بشدة في “أصحاب ولا بيزنس” وفي العمل الجيد الذي لم يأخذ حقه “خالي من الكوليسترول”، حتى مشاركة البطولة لصديقه ورفيق دربه، خالد صالح في الفيلم الذي يُعد من أهم وأجرأ افلام السينما المصرية “فبراير الأسود” ودوره الرائع لشخصية حبيب في الفيلم المتميز “جريمة الإيموبيليا”.. وحسام في “اشتباك” وغيرها من الأدوار التي حفلت بمشاهد شديدة الروعة والتفرد.
في الدراما التليفزيونية ترك الفنان طارق عبد العزيز علامات مهمة من خلال العديد من الأدوار مثل دور كامل الشناوي في مسلسل “أم كلثوم” ودور النحاس باشا في مسلسل “مشرفة رجل لهذا الزمان” وموسى صبري في “أبو ضحكة جنان” ومشاركته المتميزة في أعمال مثل “أستاذ ورئيس قسم” و”خارج السيطرة” و”راجعين يا هوى”.
قاربت الأعمال الفنية للفنان الراحل المئة عمل شملت إلى جانب السينمائي والدرامي.. الإذاعي والمسرحي.. كلها بلا استثناء حملت مضمونا فنيا راقيا يفخر به أبناء الفنان الراحل الذي عاب عليه البعض ذات يوم كثرة رفضه للأعمال الفنية التي تُعرض عليه، فكان رده أنه ليس واثقا أنه سيترك لأولاده ثروة من المال؛ لكنه حريص جدا على أن يترك لهم من أعماله الفنية ما يجعلهم يفتخرون بانتسابهم إليه.. رحم الله الفنان النبيل طارق عبد العزيز وغفر له وأنزله منازل الأبرار.