كان الأستاذ أحمد بهاء الدين، له قول مأثور سمعته منه مباشرة، قول أقرب إلى النصيحة والدرس المُستفاد، لكل من يُريد أن يجعل من الكتابة والصحافة مهنته، كان يقول: “فكّر بعمق، واقرأ بدأب، واكتب ببساطة”.
ولا أظن إن الأستاذ العزبي مَعْنِيٌ بهذا القول وتلك النصيحة لسبب بسيط، هو أنه يُطبّقها ويأخذ بها منذ أن ترك دراسة الطب وعالمه المُعقّد إلى الصحافة وعالمها الرحب، وربما قبل أن يتزامل مع الأستاذ بهاء صاحب الحكمة السابقة، فهما من جيل واحد، هذا الجيل العظيم الذي جمع ما بين الثقافة والصحافة، فضلا عن التجربة العميقة، والذي يندر وجوده للأسف في عالم اليوم إلا من رحم ربي.
موضوعان تجلى فيهما الأستاذ العزبي في كتابه “الصحافة والحكم” الأول: عن الأستاذ محمد حسنين هيكل، أما الثاني فعن اليهود والحركة الشيوعية في مصر.. والموضوعان يستحقان وقفة لأهميتهما، فالأستاذ هيكل، وبصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف معه في بعض اجتهاداته السياسية، إلا أننا لا نختلف على قيمته الصحفية والفكرية، فهو -وبلا جدال- واحد من أهم رجال الصحافة خلال القرن العشرين وأبرز كُتّابها، فضلا عن التزام صارم بمنهج حياة طبّقهُ على نفسه، فكان لهيكل الذي نعرفه ونسمع عنه، منهج جعله نموذجا للالتزام بالمهنة واحترام قواعدها وأخلاقياتها إلى حدٍ لم يُنافسه فيه أحد، على الأقل ممن هم من أبناء جيله، فلم يُعرف عن الرجل سلوك أخلاقي يعيبه، فهو الصارم مع نفسه في نظام الحياة من مأكل ومشرب واحترام للوقت في العمل أو البيت.. لم يُنافسه في ذلك مع بعض الاختلاف الجزئي، سوى الأستاذ نجيب محفوظ.
أما علاقته بالمال، فقد أقام بينه وبين أموال المؤسسة التي كان يقودها، من عام ١٩٥٧، إلى عام خروجه منها في ٢ فبراير ١٩٧٤، ألف حاجز وحاجز، وأعني بها مؤسسة الأهرام، حتّى أن الرئيس السادات، وبعد خلافه السياسي معه بشأن الإدارة السياسية لحرب أكتوبر، أراد أن يُنكّل به فأحاله إلى المُدّعِي الاشتراكي، للتحقيق معه والتفتيش فيما يملك، لكن من سوء حظ الرئيس السادات وحسن حظ الأستاذ هيكل أن كان هذا الرجل هو القاضي الجليل أنور حبيب الذي كان في قضية مقتل السياسي المصري أمين عثمان في الأربعينيات، وكان السادات من بين المُتهمين فيها، كان مُمثل النيابة والادعاء، أي أن مهمته السعي لوضع حبل المشنقة على رقبة السادات ورفاقه، فتحوّل الرجل بضمير القاضي ودوافع وطنية صارمة، إلى مُحامٍ يدافع عن السادات ومن معه!
هذا الرجل هو الذي أحال إليه السادات، الأستاذ هيكل، لـ “البحث عن فضيحة”، فما كان أن سأله الرئيس وأمام مجموعة من الشهود، وبعد فترة من التحقيق، وبطريقته المُعتادة: “عملت إيه مع صاحبك؟”
فما كان أن ردَّ عليه المستشار أنور حبيب وبكل صدق وعفوية: “الأستاذ هيكل وبعد شهور من التحقيق معه هو من أشرف وأنظف الرجال الذين عرفتهم طوال حياتي المهنية”.
فما كان من الرئيس السادات بعد أن سمع شهادة هذا القاضي الجليل إلا أن علّق ساخرا: “باين عليك “عجِّزتٰ” و”خرَّفت” يا أنور”!
سكت الرجل، والتزم الصمت واعتكف بعيدا عن الحياة العامة وتخلّى عن منصبه، ثم رحل في هدوء إلى رحاب الله!
الأستاذ العزبي كان في ذهنه هذه الواقعة، والتي يعرفها بحكم موقعه، وهو الخبير بعالم الصحافة التي يعرف عنها الكثير من الأسرار، منها المُباح وغير المُباح!
غير أنني حاولت إلقاء الضوء على هذا الجانب في حياة الاستاذ هيكل والتي أتي عليها بالتفاصيل في كتابه الوثائقي “تحقيق سياسي أمام المدعي الاشتراكي”، هذه الوقائع أطّلع عليها القليل من الناس، لصدور الكتاب في بيروت، ولم يُسمح بإصداره في هذا الوقت في مصر، ولم يُسمح بدخوله.
الأستاذ العزبي عرض لكتاب الصحفي عادل حمودة عن الأستاذ هيكل وكان عنوانه “خريف هيكل: أسطورة شاخت في موقعها”، والعنوان رغم ما يحمل من إساءة للأستاذ، إلا أنها تُفقد الكاتب المصداقية، فكيف نصدق صحفي أصدر من قبل كتابين عن الأستاذ هيكل الأول بعنوان “هيكل: الحياة والحُب والحرب” والثاني “لعبة السلطة في مصر”.
ففي كتابه الأخير ألصق حمودة بالرجل كل نقيصة، فيما أفرد في كتابيه الأولين، القصائد في مديح الأستاذ، فكيف تتوافر المصداقية إذا كان هذا هو منهج الكاتب وما يُسَطّر؟
حسابات مصالح ولا تفسير غير ذلك، فمع الإعلام الخاص الذي يعمل حمودة وغيره في سراديبه، تُدرك أنها كُتب ومقالات ومانشيتات وبرامج مدفوعة الأجر مُقدما، لا تستهدف وجه الحقيقة ولا الاحترام، فضلا عن البُعد عن وجه الله!
كل من يريد، أن ينال من سيرة هيكل يذهب سريعا إلى “أولاد هيكل” وخصوصا “أحمد” ثاني أولاده، و”حسن” أصغر الأبناء الثلاثة، أما الكبير الدكتور “علي” أستاذ الباطنة في القصر العيني، فقد اكتفى أن يكون كما وصفه الأستاذ العزبي مُخلصا لمهنته ولأبيه، يطمئن يوميا على صحته ويُصطحبه في كل رحلة علاجية بالخارج، أدامه الله ورحم الله الأستاذ الذي وهبه الله ابنا طبيبا حتى يعيش معه ويرعاه في ساعات مرضه.
وحكاية أحمد هيكل وشقيقه حسن ولموقعهما في عالم المال والأعمال والتجارة في مصر، هي “كعب أخيل” التي يرى فيها أصحاب المصالح، نقطة الضعف التي يمكن أن توجه إليها السهام المسمومة؛ لكي تنال مقتلا، في تاريخ الأستاذ هيكل!
وعلى حد علم الأستاذ العزبي أن الرجل الذي كان مع عبد الناصر أحد مُنظري نظامه صاحب التطبيق الاشتراكي للعدالة الاجتماعية، يفصل تماما بين مواقفه ورؤيته السياسية والفكرية وقناعاته، وبين عمل ولديه أحمد وحسن؛ فقد اختارا العمل وفق آليات السوق، وعليهما أن يتحملا تلك القوانين التي لا تعرف في بلادنا أخلاقا أو احتراما.. وأن يتحملا هذه الأجواء وحدهما، ولا دخل للأستاذ بما يفعلان، صوابا كان أو خطأ.
عليهما أن يتحملا قانون هذا العالم، وسهامه، ومن بينها ما كتبه عادل حمودة، أو قاله غيره ممن يعملون في بلاط صاحبة الجلالة!
أو ممن تصور أنه يملك رأيا، وهو لا يعرف، أننا نعرف من الذي يدفع ومن الذي ينطق عن الهوى والغرض والمرض والمصلحة!
يقول الأستاذ العزبي وقوله هنا هو القول الفصل، وبأسلوبه الرقيق الرشيق: “كان الأستاذ هيكل، رئيسا لتحرير آخر ساعة عندما التحقت بها تاركا ورائي كلية طب القصر العيني، كان شابا وراءه تاريخ وأمامه مستقبل يحسده أساتذته عليه، كانت تحيط به هالة من الحُب والإعجاب والإرهاب…” و”استقبلني في مكتبه وأعطاني أول درس في الصحافة، وانطلق الهرم الرابع في عالم الصحافة، ومثل الأساطير ترك الأهرام، بقرار من الرئيس السادات وعمره ٥١ سنة”!
تصور الجميع أنها نهايته، فإذا به في مقدمة الصفوف ولو كره الكارهون، حتى أن طموحه لم يستجب لقراره يوما بأن يستأذن في الانصراف”! الله عليك يا أستاذ محمد العزبي.