بعد أكثر من 8 أشهر على اندلاع الصراع الدامي في السودان، بين الجيش والدعم السريع، ومع تقدم قوات الدعم في اتجاه الجنوب، تصاعدت في الآونة الأخيرة الأصوات الداعية إلى تسليح “المدنيين” في السودان عمومًا، وفي شرق البلاد بوجه خاص.. وعبر مجموعات تُطلق على نفسها “المقاومة الشعبية المُسلحة”، انتشرت هذه الدعوة في المناطق التي يُسيطر عليها الجيش، في ولايات النيل الأبيض ونهر النيل وإقليم شرق السودان.
وتثير هذه الدعوات مخاوف من توسع دائرة الحرب، ومن تحول الصراع إلى حرب أهلية؛ خاصة مع التأثيرات السلبية المتوقعة، لهذا التوجه في تسليح المدنيين عمومًا، وفي شرق السودان بوجه خاص، حيث انتشار التنافس القبلي، بما يُمكن أن يؤدي إلى تصعيد هذا التنافس إلى الحرب الأهلية. هذا فضلًا عن احتمال تحول شرق السودان إلى منطقة صراع إقليمي، مع تداعيات تمدد قبائل الشرق عبر الحدود مع دول جوار السودان.
تداعيات سلبية
لعل أهم التأثيرات السلبية على تسليح المدنيين عمومًا، وفي شرق السودان بوجه خاص، تبدو عبر أكثر من جانب.. أهمها الجوانب التالية:
أولًا: التأثير على مواقف القوى في الصراع الحالي؛ إذ يُمكن أن يتحول شرق السودان إلى مسرح للاستقطاب والمواجهة السياسية والعسكرية بين الطرفين المتصارعين في السودان؛ فضلًا عن الاصطفاف الذي سيحدث على خط التوتر القائم، في الأصل، بين المجموعات القبلية، سواء من تعتبر نفسها مجموعات أصلية في الإقليم، أو تلك التي تُصنف على أنها وافدة.
ومن ثم، يأتي اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم، ليفرض مناخات سياسية جديدة، واستفهامات حول مستقبل شرق السودان، في إطار تعاظم مهددات وحدة البلاد وتفاقم مخاطرها. فمن حيث إن الدعوات إلى التسليح العشوائي للمدنيين والقبائل، أو اللجوء إلى تشكيل ميليشيات مسلحة، في إقليم الشرق، بهدف دعم الجيش في صراعه مع قوات الدعم، يجعل من السودان منفتحًا على أكثر الاحتمالات سوءًا في تاريخ الصراعات الداخلية التي شهدها السودان على مدار تاريخه الحديث.
ثانيًا: إشكاليات التنافس المجتمعي بين القبائل في الشرق؛ حيث أدى تسييس القبيلة في السودان، عبر تعمد نظام البشير توظيف القبائل، ومحاولة خلق كتلة قبلية موالية له، في تنامي الشعور بالهوية القبلية على حساب الهوية الوطنية، وبالتالي تفاقم الاستقطابات المجتمعية؛ وهو ما أدى إلى جعل القبيلة أساسًا للتناحر السياسي والمجتمعي، واتخاذ الصراع في البلاد الشكل القبلي، في شقيه الاجتماعي والاقتصادي.
وقد تجلى ذلك بشكل واضح، في شرق السودان في استمرار، ليس فقط المساعي لحسم القضايا التنموية والصراع على الموارد، بين قبائل الإقليم؛ ولكن أيضًا في مطالب الحكم الذاتي وتقرير المصير؛ وهي المطالب التي تتصاعد من آن لآخر في الإقليم. هذا فضلًا عن النزاعات المستمرة، سواء بين سكان الإقليم الأصليين، أو بينهم وبين الوافدين عليهم من أقاليم السودان، مثل مجموعات من قبائل المساليت والفور والهوسا، إضافة إلى الزغاوة.
ونتيجة للتهميش الذي عانى منه إقليم الشرق، فقد اتجهت بعض مجموعاته القبلية إلى تبني العمل المسلح ضد “المركز” في العاصمة الخرطوم، مثل حزب مؤتمر البجا، وجبهة أسود الشرق. ومع دعوات تسليح المدنيين، يمكن أن يتزايد الصراع بين مكونات الإقليم، بما يدفع إلى إمكانية الحرب الأهلية.
ثالثًا: عدم الاستقرار الأمني واحتمال الحرب الأهلية؛ وهو الاحتمال الذي يتبدى بوضوح، من خلال الحالة الأمنية الرخوة التي يُعاني منها شرق السودان؛ إضافة إلى ما يتوافر لدى الإقليم من كميات كبيرة من الأسلحة المتنوعة، التي تدفقت إليه من دول الجوار الجغرافي والإقليمي، خلال الصراع القبلي الذي نشب قبل عامين، بما يجعل القبائل المتنازعة على استعداد للدخول في الصراع الدائر، منذ 15 أبريل الماضي، بين الجيش وقوات الدعم السريع.
والمُلاحظ، أن السودان لديه تاريخ حافل في تجارب تسليح المدنيين، أدت إلى تأجيج الصراعات، كما حدث في إقليم دارفور غربي البلاد، في عام 2003، وراح ضحيته أكثر من 300 ألف قتيل، ونزوح 2.5 مليون من منازلهم، وفقًا لإحصاءات الأمم المتحدة. وتبعًا لإحصائية رسمية، صدرت عام 2018، فإن هناك 5 ملايين قطعة سلاح في مختلف المناطق السودانية؛ إلا أن مجموعة الأبحاث “سمول أرمز سرفاي”، تؤكد أن 6.6 % من السودانيين يمتلكون أسلحة نارية.
فإذا أضفنا إلى ذلك، السلاح المتوافر لدى الميليشيات المسلحة، سواء التي دخلت ضمن الاتفاق الإطاري، أو التي بقيت خارجه، يُصبح السودان بكامله، وليس إقليم الشرق فقط، على “فوهة بركان”.
رابعًا: تحول إقليم الشرق إلى منطقة صراع إقليمي؛ فرغم أن أزمة إقليم شرق السودان، هي بالأصل صناعة محلية، إلا أن التدخلات الإقليمية من دول جوار السودان، ساعد على تموضع هذه الدول، خاصة إريتريا وإثيوبيا، في عمق الاختلافات المجتمعية في الداخل السوداني.
أضف إلى ذلك، أن صراعات النفوذ والهيمنة الدولية، والإقليمية، على سواحل البحر الأحمر، لا تنفصل عن الأزمة السودانية عمومًا، والتفاعلات القبلية ومحركات الصراع في شرق السودان على وجه الخصوص. ويعود هذا إلى رغبة كل من روسيا وتركيا وإيران لإيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، عبر استغلال إشكاليات التناحر القبلي، لتفعيل الاتفاقات السابقة مع نظام البشير، بشأن إنشاء قواعد عسكرية في بورتسودان أو ميناء سواكن.
مشاهد مستقبلية
في هذا السياق، يُمكن القول بأن الدعوات إلى تسليح المدنيين، ونتائجها، لن تُساهم في الحسم العسكري الذي يأمله الطرفان المتحاربان؛ بل على العكس، سيؤدي إلى حرب أهلية واسعة، في ظل العصبية القبلية التي تُهيمن على النسيج المجتمعي في الإقليم. إذ إن الموقف المؤيد للجيش، من جانب محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا كمثال، سيدفع القوى القبلية الأخرى، خاصة التي لها تاريخ من النزاع مع قبائل البجا، مثل بني عامر والرشايدة، إلى مساندة قوات الدعم السريع، من حيث إن لها مصالح معها.
ومن ثم، فإن غياب الأفق لحل سلمي عبر طاولة التفاوض، بين الطرفين المتقاتلين، سوف يؤدي إلى أن يطل الصراع في السودان على كافة الاحتمالات، في المستقبل المنظور، بما يهدد مستقبل هذا البلد.