عندما وصل جيش الفتح إلى حصن بابليون، كان الروم قد حفروا خندقا حوله وجعلوا له أبوابًا، ونثروا بأفنية الأبواب سكك الحديد لتعيق حركة الخيل والرجال.. ناور عمرو بجيشه -قليل العدد- لإيهام المحاصرين بعكس الحقيقة؛ لكن ذلك الخداع لم ينطل على الروم؛ فنادوا عمرا: رأينا صنيعك.. إنما من معك لا يتجاوزون كذا، وذكروا عدد الجند على وجه من الدقة عجيب.
لكن عمرا لم يني يناوش الروم مهاجما قواتهم خارج الحصن، يغلبهم دون حسم.. حتى طال أمد الحصار، فكاتب عمرا عُمرَ يعرض عليه الوضع ويطلب المدد.. فبادر الخليفة بإرسال قوة مكونة من أربعة آلاف رجل، على رأس كل ألف فارس بألف وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وعمير بن وهب.
استمر الحصار نحوا من سبعة أشهر، بدءً من غُرة رمضان 19هـ، استعصى على الجند اقتحام الخندق؛ حتى بعد إعادة تقسيم الزبير للقوات المُحَاصِرة ليكون على رأس نصف الجيش من جهة سوق الحمام، ويكون ابن العاص على رأس النصف الآخر ناحية الجبل.. وكان من ضمن محاولات الفاتحين التفاف فرقة من خمسمئة فارس حول قوات الروم من وراء الجبل بلغوا مغار بني وائل عند الصبح، فالتقى الفرسان بقوة من الروم ودار القتال لبعض الوقت انهزم على إثره الروم وعدوا إلى الحصن، وألقى بعض المسلمين السلالم على الأسوار بغية الدخول من جهة زقاق الزمامرة.. وشب نزاع بين رجال من قوات الزبير وقوات عمرو حمل السيطرة على أحد الأبواب.. لكن الخلاف سرعان ما انتهى.
وورد أن المقوقس راسل عمرا في محاولة منه لرده عن محاصرة الحصن، وجاء في رسالته لعمرو: “إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم، ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أُسَرَى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلبكم ورجائكم، فابعث إلينا رجالا من أصحابك نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء”.
لم يسرع عمرو في الرد، وأبقى الرسل عنده ليومين وليلتين؛ حتى ظن المقوقس أن عمرا قتل رسله، فأشاع في أصحابه أن قتل الرسل مستحل في دين هؤلاء.
وكان رد عمرو بعد ذلك شافيا إذ عرض عليهم واحدا من أمور ثلاثة؛ فإما أن يسلموا ويكونوا إخواننا للعرب لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإما الجزية يعطونها عن يدٍ وهم صاغرون، وإما “…القتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين”.
عند عودة الرسل استقبلهم المقوقس سائلا عن حال المسلمين، وكيف وجدوهم فأجابوا: “رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نَهْمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعُهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، إذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم”.
فلما سمع ذلك المقوقس، وكان رجلا لا تنقصه الحكمة قال: “والذي يُحلف به، لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يَقْوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محاصرون بهذا النيل، لن يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم”.
ثم عاود المقوقس إرسال الرسل لعمرو طالبا منه إرسال بعض رجاله للتفاوض؛ فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، ولم تذكر المصادر أسماء الآخرين، وكان عبادة أسود اللون مديد القامة يقارب المترين وكان المتحدث باسم وفد المفاوضين في إطار ما عرضه عمرو في رده من أمور ثلاث.
فلما رأى المقوقس عبادة هابه لشدة سواده وقال: “نحُّوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يُكلمني”. فقالوا جميعًا: “إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمّره الأمير دوننا بما أمره به، أمرنا بأن لا نخالف رأيه وقوله”.
وقيل أن المقوقس تعجّب لذلك فكان رد الوفد “…إنه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة، وعقلا ورأيا، وليس يُنكَرُ السواد فينا”. فاستغل عبادة حالة المقوقس وبادره بقوله: “قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلّفت من أصحابي ألف رجل أسود، كلهم أشد سوادًا مني، وأفظع منظرًا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي، وأنا قد وليت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي؛ وذلك أنَّا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله، واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها، إلا أن الله قد أحل ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالي أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعته لليله ونهاره، وشَمْلة يتلحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده، ويبلغه ما كان في الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءَها ليس برخاء، وإنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربُّنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه”.
فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: “هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب عندي من منظره، وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها”.
ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت، فقال: “أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرًا، وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به”.
من رد المقوقس نتبين أن الرجل كان قد أيس من النصر، وباتت قدرته على الصمود أمام الحصار في أوهن حالاتها؛ فأراد أن يلقي بسهمه الأخير ردا للمسلمين عن حصنه الذي أيقن أنه لابد ساقط عما قريب في أيديهم.. لذلك كان رد ابن الصامت مزلزلا إذ قال: “يا هذا، لا تَغُرَّنَّ نفسك ولا أصحابك؛ أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنَّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقًّا فذلك -والله- أرغب ما يكون في قتالهم، وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قُتِلْنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا، ولا أحب إلينا من ذلك، وإنا منكم حينئذٍ لعلى إحدى الحسنيين، إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا أرضه ولا أهله وولده، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا رَبَّه أهلَه وولدَه، وإنما همنا ما أمامنا. وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه”. ثم خيّره بين الخصال الثلاث؛ فاستشار المقوقس أصحابه فرفضوا وقالوا أي ذلة تلك، فحرضهم المقوقس على القبول بأي من الخصال قبل فوات الأوان
فقالوا: وأي خصلة نجيبهم إليها؟
قال: إذن أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة”.
قالوا: أفنكون لهم عبيدًا أبدًا؟
قال: نعم، تكونوا عبيدًا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيدًا تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدًا أنتم وأهليكم وذراريكم.
قالوا: فالموت أهون علينا. وأمروا بقطع الجسر من بابليون والجزيرة، وبالقصر من الروم والقبط جمع كثير، فألح عليهم المسلمون عند ذلك بالقتال على من في الحصن حتى ظفروا بهم، ومكنهم الله منهم فقُتِلَ منهم خلق كثير، وأُسِرَ من أُسِرَ، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة.
وكان سقوط حصن بابليون في أيدي المسلمين في الثامن عشر من ربيع الآخر عام 20 هجرية. المُوافق التاسع من أبريل 641م.