ضمن المصطلحات القليلة في آيات التنزيل الحكيم التي ترد على صورتين من الرسم القرءاني، يأتي مصطلح “وَاقِع” مُثبتًا فيه حرف الألف، في بعض المواضع؛ وفي الوقت نفسه، يأتي محذوفًا منه حرف الألف “َوَٰقِع”، في مواضع أخرى. وهو بهذا، يختلف عن كثير من المصطلحات، التي ترد رسمًا قرءانيًا مُحددًا، تثبيتًا للحرف أو حذفًا له؛ مثل: “بَابٖ” و”أَبۡوَٰبٖ”، “ٱلۡحَسَنَٰت” و”ٱلسَّيِّـَٔات”، “ٱلظَّٰهِر” و”ٱلۡبَاطِن”.. وغيرها.
وفي مقالنا السابق حول: “الرسم القرءاني.. ودلالة مصطلح “َوَٰقِعٞ” الوظيفية”، وصلنا إلى أن مصطلح “َوَٰقِعٞ”، الذي يأتي محذوفًا منه حرف الألف، مؤشرا دلاليا على الجانب الوظيفي، المعنوي، للمصطلح؛ يأتي، أيضًا، مسبوقًا بـ”لام” التوكيد، للتأكيد على تحقق أمور ثلاثة: “ٱلدِّينَ”، و”عَذَابَ رَبِّكَ”، وما “تُوعَدُونَ”.
ففي قوله سبحانه: “إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَٰقِعٞ ٭ مَّا لَهُۥ مِن دَافِعٖ” [الطور: 7-8]، يبدو التأكيد على أن “عَذَابَ رَبِّكَ” سوف يتحقق لا محالة؛ بل، “مَّا لَهُۥ مِن دَافِعٖ”. وهنا، يبدو أيضًا، الفارق الدلالي بين مادية مصطلح “دَافِعٖ” العضوية عبر تثبيت حرف الألف، ووظيفية “عَذَابَ رَبِّكَ” عبر حذف الحرف في مصطلح “َوَٰقِع”.
وهو ما يتأكد في الموضعين الآخرين، اللذين ورد فيهما مصطلح “َوَٰقِع”؛ نعني قوله سبحانه: “إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٞ ٭ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٞ” [الذاريات: 5-6]؛ وقوله تعالى: “وَٱلۡمُرۡسَلَٰتِ عُرۡفٗا ٭ فَٱلۡعَٰصِفَٰتِ عَصۡفٗا ٭ وَٱلنَّٰشِرَٰتِ نَشۡرٗا ٭ فَٱلۡفَٰرِقَٰتِ فَرۡقٗا ٭ فَٱلۡمُلۡقِيَٰتِ ذِكۡرًا ٭ عُذۡرًا أَو نُذۡرًا ٭ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞ” [المرسلات: 1-7].
ولفظ “وقع”، لغويًا، يُعبر عن سقوط شيء، يُقال وقع الشيء وقوعًا فهو “واقع”؛ أما دلاليًا فيؤشر اللفظ إلى التحقق، أي “تحقق صيرورة حالة شيء ما”. وقد ورد الفعل “وقع”، ومشتقاته، في آيات التنزيل الحكيم في 24 موضعًا؛ من بينها ستة مواضع ورد فيها اسم الفاعل “واقع” بالتذكير، وفي موضعين بالتأنيث “واقعة”.
وقد ورد المصطلح في موضعي التأنيث مُعرفًا بـ”الـ” التعريف، مع تثبيت حرف الألف “ٱلۡوَاقِعَةُ”، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي للمصطلح؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفۡخَةٞ وَٰحِدَةٞ ٭ وَحُمِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةٗ وَٰحِدَةٗ ٭ فَيَوۡمَئِذٖ وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ” [الحاقة: 13-15]. إذ، يبدو من الآية الكريمة، أن السياق يتضمن دلالات مادية، مثل: “فَدُكَّتَا دَكَّةٗ وَٰحِدَةٗ”، حيث “الدك” لا يكون إلا ماديًا؛ ومن ثم، يأتي حرف الألف في مصطلح “ٱلۡوَاقِعَةُ” مؤشرا دلاليا على هذا الجانب.
يتأكد هذا أيضًا، عبر قوله تعالى: “إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ٭ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ” [الواقعة: 1-2]؛ إذ هاهنا تبدو “ٱلۡوَاقِعَةُ” في حال من التحقق المادي؛ ليس فقط لأن “لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ”، ولكن أيضا لأن السياق الوارد في الآيات الكريمة التي تلي هذه الآية، يتضمن كله دلالات مادية؛ وهو ما يتبدى عبر قوله سبحانه وتعالى: “إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ٭ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٭ خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ ٭ إِذَا رُجَّتِ ٱلۡأَرۡضُ رَجّٗا ٭ وَبُسَّتِ ٱلۡجِبَالُ بَسّٗا ٭ فَكَانَتۡ هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا” [الواقعة: 1-6]، حيث “ٱلۡأَرۡضُ… ٱلۡجِبَالُ… هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا” كلها أشياء مادية. وبالتالي، يأتي حرف الألف في مصطلح “ٱلۡوَاقِعَةُ” مؤشرا دلاليا على هذا الجانب.
أما مصطلح “وَاقِعُۢ” فقد ورد، في آيات التنزيل الحكيم، مع تثبيت حرف الألف في مواضع ثلاثة، في صيغة التذكير “غير المُعرَّف”؛ كما في قوله عزَّ وجل: “وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٞ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ” [الأعراف: 171].
وهنا، لنا أن نُشير إلى ملاحظات ثلاث:
الأولى، تتعلق بالفارق الدلالي بين “إِذۡ” التي ترد في مُفتتح الآية، وبين “إِذَا”، حيث إن كلاهما ظرف زمان؛ لكن الأولى “إِذۡ” ظرف زمان للماضي، كما في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِي وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ…” [الصف: 5]، حيث تُخبر الآية الكريمة عما قاله موسى عليه السلام لقومه.
أما الأخرى “إِذَا” فهي ظرف زمان للمستقبل، كما في قوله تعالى “إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ٭ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ” [الواقعة: 1-2]، حيث سوف تقع “ٱلۡوَاقِعَةُ” في المستقبل. أيضًا، فإن هناك فارق دلالي آخر بينهما؛ حيث إن “إِذۡ” ظرف زمان ماضي بمعنى “حين”، أما “إِذَا” فهي ظرف زمان مستقبلي يتضمن معنى “الشرط”؛ حيث إن “إِذَا” تؤشر إلى الحتمية “إذا حدث كذا حدث كذا”، كما في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَةٗ فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ” [الأنفال: 45]. وتأتي “إِذَا” الشرطية، في مقابل “إِنْ” الاحتمالية، كما في قوله عزَّ من قائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا وَيُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ” [الأنفال: 29].
الثانية، تختص بالتعبير القرءاني “وَاقِعُ بِهِمۡ” [الأعراف: 171]، الذي يختلف دلاليًا عن “واقع عليهم”؛ فالتعبير القرءاني يتضمن معنى “الإحاطة بهم” بحيث لن ينجو منهم أحد، في حين أن “واقع عليهم” لا يتضمن هذه الإحاطة؛ حيث تؤشر “عليهم” إلى مجرد سقوط من علٍ، بصرف النظر عن من يهلك أو ينجو.
الثالثة، تتمحور حول مُفتتح الآية الكريمة “وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ”؛ حيث إن أصل “النتق” هو “انتزاع شيء من موضعه عنوة والرمي به في موضع آخر”؛ أما “ظُلَّةٞ” فتؤشر إلى “كل ما يستظل به الإنسان”، سواء كان سقف بيت أو سحابة أو غير ذلك. والمعنى، أن “الظن” وصل بهم إلى درجة “أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ”، أي “تَحَقُقْ سقوط الجبل فوق رءوسهم”.
في هذا الإطار، يتأكد كيف أن ورود مصطلح “وَاقِعُۢ”، مع تثبيت حرف الألف، يدل على الجانب المادي العضوي للمصطلح.
وهو ما يتأكد، أيضًا، من خلال قوله عزَّ وجل: “… وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٭ تَرَى ٱلظَّٰلِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعُۢ بِهِمۡۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فِي رَوۡضَاتِ ٱلۡجَنَّاتِۖ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمۡۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ” [الشورى: 21-22]؛ حيث يأتي التعبير القرءاني “وَهُوَ وَاقِعُۢ بِهِمۡۗ”، مع تثبيت حرف الألف في مصطلح “وَاقِعُۢ”، للدلالة على الجانب المادي العضوي لـ”عَذَابٌ أَلِيمٞ”، سوف يلقونه.
وهنا، وفضلًا عما سبقت إليه الإشارة بخصوص التعبير القرءاني “وَاقِعُۢ بِهِمۡۗ”؛ لنا أن نلاحظ أن الكسب هو المردود “الإيجابي” للعمل، من الفعل كسب يكسب من الزيادة، أي الربح؛ أما الاكتساب فهو المردود “السلبي” للعمل، من الفعل اكتسب على وزن افتعل؛ كما في قوله سبحانه: “لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ…” [البقرة: 286]؛ وكما هو واضح، فقد ورد “لَهَا” بخصوص الكسب، و”عَلَيۡهَا” بخصوص الاكتساب.
إلا أن الآية الكريمة تضمنت الإشفاق من الكسب ” مُشۡفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ”؛ كـ”تصوير” لحال “الظالمين” يوم الحساب والجزاء، من حيث إنهم “ربحوا العذاب”، فأصبح بالنسبة إليهم “كسبًا” يستوجب “الإشفاق”. يؤكد هذا، قوله سبحانه: “بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَيِّئَةٗ وَأَحَٰطَتۡ بِهِۦ خَطِيٓـَٔتُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ” [البقرة: 81]؛ إذ، إن “كَسَبَ”، هنا، تدل على أن الـ”سَيِّئَةٗ” عنده أصبحت مألوفة، وأمرًا اعتياديًا في فعله. ومن ثم، جاء التعبير القرءاني “وَأَحَٰطَتۡ بِهِۦ…” معطوفًا على “كَسَبَ…”، للتأكيد على أن اعتياد الـ”سَيِّئَةٗ” هو “كسب” يستحق عليه أن يكون من “أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ”.
ثم، يأتي الموضع الثالث الذي يرد فيه مصطلح “وَاقِع”، مع تثبيت حرف الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ ٭ لِّلۡكَٰفِرِينَ لَيۡسَ لَهُۥ دَافِعٞ” [المعارج: 1-2]. وهنا، لنا أن نتأمل كيف ورد مصطلح “دَافِعٞ”، مُثبت حرف الألف، تمامًا مثل مصطلح “وَاقِعُۢ”، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي لكل من المصطلحين. فإذا كان العذاب “وَاقِعُۢ” على الجانب المادي، فإن هذا العذاب نفسه “لَيۡسَ لَهُۥ دَافِعٞ” مادي.