لعل من النافل القول إن كل كيان مادي في هذا الوجود له وظيفة منوطة به يؤديها، أو عليه أن يؤديها؛ وهو ما يُعبر عنه القول المأثور “كل مُيَسّر لما خُلق له”. بهذا المعنى، فإن كلمات الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ليست فقط مجرد كائن مادي، أو كيان له وزن وكثافة وحجم، وغيرها من أنواع المقاييس؛ بل أيضا له وظيفة “مقترنة ومدركة مع مادته”.
ويتبدى هذا بوضوح إذا تأملنا قوله سبحانه وتعالى: “فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ ٭ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ” [الواقعة: 75-76] إذ لنا أن نلاحظ أن المقصود بمصطلح “مَوَاقِعِ النُّجُومِ”، هو “الموطن الذي يتمركز فيه النجم بمكانه في السماء”، لما لكافة أبعاده عن بقية النجوم الأخرى من أهمية، لها علاقة بـ”حفظ” الأرض التي نعيش عليها؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ” [فصلت: 12]؛ حيث إن “وَحِفْظًا” لا تختص فقط بـ”ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا”، ولكنها تتعلق بالأرض كذلك. ويتأكد ذلك، بالسياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة، مع ما سبقها من آيات [فصلت: 9-12].
بل، إن المولى عزَّ وجل قد أخبرنا، من خلال آيات التنزيل الحكيم، بأن هذا الخلق، خلق الكون بكل ما فيه هو كلماته، كما في قوله عزَّ من قائل: “قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا” [الكهف: 109]؛ وأن كل من كلماته لها كيان مادي عضوي يحمل معه وظيفتها.. كما في قوله سبحانه: “أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا ٭ وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا” [نوح: 15-16]؛ وكما في قوله تعالى:
“هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ” [يونس: 5].
فإذا كانت كلمات الله الكونية لها كيان مادي عضوي، يحمل معه وظيفتها، وأن ذلك “حقًا”، كما تؤكد الآية الكريمة “مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ”؛ فإن كلمات الله الموحاة، المطلوب مننا تلاوتها وتدبرها ومحاولة التوصل إلى دلالاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا” [الكهف: 27].. هذه الكلمات الموحاة (كلمات الله) تحمل أيضا، في كينونتها مادتها العضوية ووظيفتها المنوطة بها.
هنا، يمكن لنا أن نصل إلى استنتاج مفاده: إن الله عزَّ وجل قد خلق كل شيء في هذا الكون، ليؤدي وظيفة معينة، خُلِق من أجلها، ليؤديها وينجزها؛ وأن هذه الوظيفة تتناسب مع مادته العضوية التي خُلِق منها. يقول سبحانه وتعالى: “قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ ٭ قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ” [طه: 49-50]؛ ومن الواضح عبر الآية الكريمة، أن “أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ” تؤشر إلى وتدل على، كيان الشيء المادي العضوي الذي يتلاءم مع الوظيفة التي خُلِق لأجل أن يؤديها؛ وأن “ثُمَّ هَدَىٰ” تؤكد على أن المولى سبحانه وتعالى قد “أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ” وظيفته التي “هَدَىٰ” الشيء إليها، تلك التي خُلِق من أجلها متلائمًا مع كيانه المادي العضوي.
إن المثال البالغ الدلالة، على قولنا الأخير هذا، هو اختلاف الرسم القرءاني للمصطلح الواحد باختلاف وروده في الآيات الكريمة؛ بما يعني اختلافًا دلاليًا تبعًا للسياق الوارد فيه المصطلح.
وكنا في مقال سابق، حول دلالة مصطلح “الطَّآئِفِينَ” قد أشرنا إلى أن المصطلح قد ورد في صيغة الجمع في موضعين اثنين في آيات الذكر الحكيم؛ وفي الموضعين ورد المصطلح مع تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح.. كما في قوله سبحانه: “وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ” [الحج: 26]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ” [البقرة: 125].
وهنا لنا أن نُلاحظ، كيف ورد مصطلح “الطَّآئِفِينَ” مُثبت حرف الألف، في حين ورد مصطلح “ٱلۡعَٰكِفِينَ” محذوف الحرف؛ وإذا كان تثبيت حرف الألف يأتي مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي للمصطلح، فإن حذف الحرف في مصطلح “ٱلۡعَٰكِفِينَ” يأتي مؤشرا على الجانب الوظيفي المعنوي للمصطلح.
يبدو هذا بوضوح عند الاقتراب من لفظ “عكف” الذي يؤشر إلى “الإقبال على الشيء وعدم الانصراف عنه”؛ أما “معكوف” فهو يدل على “شيء ممنوع من الإقبال عليه”. وفي الحالين، يُمكن التأكيد على أن المسألة برمتها هي مسألة معنوية وظيفية، في التعامل مع الشيء، أي شيء.
وفي الغالب يأتي لفظ “معكوف” للإشارة إلى “حال الشيء الممنوع”، كما في قوله سبحانه وتعالى: “هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ…” [الفتح: 25]. أما “الاعتكاف” فهو “حصر الحركة في زمان معين على الوجود في مكان محدد”؛ بما يعني أن “اعتكف” أي “حصر حركته في زمان ما على مكان ما”.. وهو ما يتبدى عبر قوله سبحانه: “وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ” [البقرة: 187]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “قَالُواْ لَن نَّبۡرَحَ عَلَيۡهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرۡجِعَ إِلَيۡنَا مُوسَىٰ” [طه: 91].
ولأن دلالة مصطلح “ٱلۡعَٰكِفِينَ” تختص بالجانب الوظيفي، المعنوي، لـ”الاعتكاف”؛ لذا، فقد ورد المصطلح في آيات الله البينات، في كل مواضع وروده محذوف حرف الألف.. كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ إِبۡرَٰهِيمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَٰلِمِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيٓ أَنتُمۡ لَهَا عَٰكِفُونَ” [الأنبياء: 51-52]؛ وكما في قوله سبحانه: “وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ إِبۡرَٰهِيمَ ٭ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا تَعۡبُدُونَ ٭ قَالُواْ نَعۡبُدُ أَصۡنَامٗا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ” [الشعراء: 69-71].. وأخيرًا، في قوله عزَّ من قائل: “وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ” [طه: 97].