رؤى

التقديم والتأخير.. ودلالة “خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”

ربما يرى البعض أن محاولة وضع اليد على المصطلح القرءاني، من حيث المفهوم والمعنى، هي محاولة تتسم بالسهولة؛ خاصة إذا كان المطلوب، كما قد يظن هذا البعض، أن نُحدد المصطلح المراد بحثه، ومعناه في “اللغة العربية”، ودلالته بناءً على هذا المعنى اللغوي في القرءان الكريم. إلا أن المسألة، ليست بهذه السلاسة؛ بل على العكس من ذلك تماما.

وبصرف النظر عن مدى صحة مقولة إن “القرءان نزل باللغة العربية”؛ فإن “اللسان القرءاني”، الذي يُمثل الأصل وليس “اللغة”، هو المعيار في تحديد مفهوم أي كلمة وأي لفظ في سياق التنزيل الحكيم؛ وأن هذا المفهوم لا يمكن تحديد ملامحه دونما بحث شبكة العلاقات المفهومية بين المصطلحات القرءانية؛ وذلك اعتمادا على ما يُعرف بـ”تأثير السياق على معاني الكلمات”.

ما نود الوصول إليه، عموما، أن “اللغة” تتضمن عديدا من اللهجات، تشتمل على تغاير في اللفظ قد يؤدي إلى تغاير في المعنى؛ وهذا على عكس “اللسان” الذي يتسم بالتحديد في معاني الألفاظ، التي هي في الأصل “أوعية للمعاني وخادمة لها”.

ومن ثم، يأتي التعبير القرءاني “لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ”، صفة لسانية لآيات التنزيل الحكيم، تعبيرا دالًا  على أن القرءان الكريم مثَّل العامل الأصل في “التوحيد اللغوي لكل العرب”؛ بما يعني أن “اللسان العربي المبين” صار لسان العرب أجمعين، وليس العكس.

عن هذا اللسان، يقول سبحانه وتعالى: “وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ٭ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٭ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ” [الشعراء: 192-195]؛ ويقول سبحانه: “وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةٗۚ وَهَٰذَا كِتَٰبٞ مُّصَدِّقٞ لِّسَانًا عَرَبِيّٗا لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِينَ” [الأحقاف: 12]؛ ويقول تعالى: “وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ” [النحل: 103].

أما عن لسان النبي الكريم، يقول عزَّ من قائل: “فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ” [الدخان: 58]. وهنا، لنا أن نُشير إلى أن الآية السابقة فسرت على أساس أن “لسان النبي هو لسان قريش”، وهو قول غير صحيح. إذ، إن لسان النبي الكريم هو “اللسان العربي المبين” أي “اللسان القرءاني”، وليس لسان قريش أو غيرها؛ هذا رغم أن النبي عليه الصلاة والسلام من قبيلة قريش.

في هذا الإطار، يُمكن إدراك دلالة قوله عزَّ وجل: “وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [إبراهيم: 3]. وفي هذا الإطار أيضا، يُمكن فهم كيف أن العرب، على اختلاف مناطقهم وقبائلهم، والأهم لهجاتهم، أصبحوا يتكلمون بـ”لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ”، أي باللسان القرءاني.

وبناء على اللسان القرءاني -قواعده ومحاولة تدبره- نستمر في محاولاتنا المتتالية لدراسة التقديم والتأخير، كمقدمة في علم الدلالة القرءانية. وهنا، لنا أن نقترب من التعبير القرءاني “وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، الذي تتقدم فيه الخبرة الإلهية “وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ”، على عموم العمل الإنساني “بِمَا تَعۡمَلُونَ”.

يقول سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٭ ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [المجادلة: 12-13]؛ ويقول تعالى: “وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [المنافقون: 11].

وعبر هذه الآيات الكريمة، نُلاحظ أن التعبير القرءاني “وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، يسبقه أوامر أو أفعال إلهية، حتى وإن كانت تتعلق بالإنسان. أوامر إلهية، من قبيل: “فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ”؛ وأفعال إلهية مثل: “وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ”.

ومن ثم، يبدو أن هذا هو الخط العام الذي يخص التعبير القرءاني متى ما ورد؛ إذ في هذه الحال تتقدم الخبرة الإلهية على العمل، كما في قوله عزَّ وجل: “إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 153]. وأيضا، كما في قوله عزَّ من قائل: “أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُواْ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَلَمۡ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَلِيجَةٗۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [التوبة: 16].

بل إن هذا الخط العام يتبدى بوضوح في حال ورود التعبير القرءاني تسبقه “إِنَّ” التوكيدية، “إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”.. وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [المائدة: 8]. إذ، هاهنا نُلاحظ كيف تضمن السياق القرءاني في الآية الكريمة أوامر إلهية تخص العدل والتقوى “ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ”.

وهو أيضا ما يتبدى من خلال قوله سبحانه: “وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِنۡ أَمَرۡتَهُمۡ لَيَخۡرُجُنَّۖ قُل لَّا تُقۡسِمُواْۖ طَاعَةٞ مَّعۡرُوفَةٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [النور: 53]؛ وعبر قوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [الحشر: 18].

يأتي هذا التعبير القرءاني “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ”، ليتقدم فيه العمل الإنساني “بِمَا تَعۡمَلُونَ” على الخبرة الإلهية “خَبِيرٞ”، تقدمًا سياقيًا. وفي هذه الحال، التي تختلف عن وضعية التعبير القرءاني السابق “وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، يتضمن الخطاب القرءاني حديثًا عن الإنسان وعمله؛ ولذلك، يتقدم العمل على الخبرة.

كيف؟.. وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock