منذ نهاية العام الماضي، في ديسمبر 2023، تُحَضِّر تركيا لشن عملية عسكرية واسعة، ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، تهدف إلى إقامة منطقة آمنة داخل الحدود العراقية، بعمق يصل إلى 30-40 كيلو مترا، وبناء أبراج مراقبة هناك وقواعد عسكرية للمراقبة.
ولأن أنقرة تُدرك أن تحقيق أهداف هذه العملية، يتطلب تعاونا مع الحكومة العراقية، فقد سعت إلى توقيع اتفاق أمني مع بغداد مرتبط باتفاقات تعاون في مجالات متعددة، أهمها النفط والتجارة والمياه، في اتجاه دفع بغداد إلى التعاون معها في هذا الشأن؛ وهو ما أدى إلى توقيع 26 مذكرة تفاهم واتفاق استراتيجي مع العراق، أثناء زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي تمت في 22 أبريل الماضي، 2024.
منذ عام 2003، امتنعت الحكومات العراقية المتعاقبة عن التجاوب مع المطالب التركية، الخاصة بالتوقيع على اتفاق أمني بينهما، أو وضع حزب العمال الكردستاني على قوائم الإرهاب، إضافة إلى تنديدها المستمر بالتدخلات العسكرية التركية في شمال البلاد.
لكن، مع مرور الوقت، وزيادة العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، ومواجهة الحكومة العراقية أزمات مادية كبيرة، فضلا عن زيادة المطالبات في الداخل العراقي برحيل القوات الأمريكية؛ كل ذلك، أدى إلى مراجعة حكومة بغداد لموقفها من التعاون الأمني مع أنقرة، لمجموعة من الدوافع.
وبحسب تقرير صدر حديثا، نهاية أبريل الماضي، عن مركز “سيتا” للأبحاث السياسية في تركيا، ذكر أن أهم دوافع الحكومة في أنقرة من التعاون مع بغداد، تتلخص في أمور ثلاثة.. إنشاء المنطقة الآمنة بين العراق وتركيا؛ وأن تؤدي تركيا دورا أكبر في موازنة النفوذ الإيراني في العراق، في حال الانسحاب الأمريكي منه؛ وتعزيز بناء خطوط نقل النفط والغاز والطاقة بين البلدين وتأمين الحماية لها، بما يُساعد على رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين.
وكما يبدو، فإن هذا الهدف الأخير يأتي بمثابة “المكافأة” التركية للعراق، في حال التعاون الأمني، لاستئناف تصدير النفط عبر تركيا، بعد أن توقف هذا التصدير منذ 25 مارس 2023، بعد ساعات من إصدار هيئة التحكيم، التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، قرارا بإلزام تركيا بدفع تعويضات للعراق، قدرها 1.5 مليار دولار، بشأن تصدير تركيا النفط من شمال العراق، دون موافقة الحكومة الاتحادية، خلال الفترة بين عامي 2018-2020.
رغم أن استئناف تصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية، تعتبره أنقرة حافزا للعراق على التعاون الأمني معها؛ إلا أنه في حقيقة الأمر يُعد حافزا عراقيا لأنقرة لاختراق الحصار المائي الذي تفرضه الأخيرة على العراق.
إذ يعمل العراق من خلال عدد من الإغراءات في مجال تصدير النفط؛ على إثناء تركيا عن تشددها في مسألة المياه. ففي وقت يعيش فيه العراق على وقع إشكالية جفاف، يحاول التفاوض مع تركيا بشأن كميات إضافية من المياه؛ هذا في الوقت الذي يُدرك فيه صانع القرار العراقي، أن تركيا تحاول المناورة للتوصل إلى اتفاق مفاده “الأمن والنفط مُقابل المياه”.
وهنا يبدو أن ثمة جانبين يتغيا العراق محاولة اختراق لكل منهما، بما يُحقق قدرا من المصلحة الاقتصادية للبلاد.
فمن جانب، تبدو محاولة تجاوز العجز في الميزانية العراقية؛ حيث إن توقف صادرات النفط العراقية، من كركوك وإقليم كردستان عبر تركيا، وفقدان 450 ألف برميل يوميا من الصادرات، منذ مارس 2023، قد ساهم في فقدان كل من بغداد وأربيل أكثر من 5 مليارات دولار. ومن ثم، يُصبح تسييل هذا النفط مسألة مُلحة، بل ضرورية، لكبح العجز الهائل في الموازنة العراقية، الذي يصل إلى حوالي 48 مليار دولار.
ولعل هذا العجز، الذي يُشير إليه تقرير صادر عن المركز العالمي للدراسات التنموية، ومقره العاصمة البريطانية لندن، ونُشر في 30 أغسطس 2023، هو ما يضغط على حكومة محمد شياع السوداني، بضرورة إنجاز صفقة عودة استئناف تصدير النفط، ربما أكثر من تركيا؛ التي تتراوح خسائرها المباشرة ما بين 2-3 مليون دولار يوميا، من رسوم عبور النفط أراضيها؛ وهي أقل كثيرا مقارنة بالخسارة العراقية.
من جانب آخر، تحسين حجم التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة؛ إذ بحسب التقرير البريطاني نفسه، فإن حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا يمكن أن يرتفع، لا سيما أن العراق يعمل على إنجاز “طريق التنمية”، الذي يربط بين البصرة جنوب البلاد والحدود مع تركيا شمالا.
وبحسب التقرير، فمن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 20 مليار دولار، خلال السنوات الخمس المُقبلة، بعد أن كان 15 مليار دولار مع نهاية عام 2022. ومن ثم، فمن مصلحة العراق، كما من مصلحة تركيا، إنجاز الاتفاق الخاص بإعادة استئناف تصدير النفط عبر تركيا، كخطوة في اتجاه تحسين حجم التبادل التجاري بينهما.
إلا أن الدافع الأهم بالنسبة إلى العراق، في التعاون الأمني مع تركيا؛ ذلك الذي يتعلق بمحاولة تخفيف التنافس الإقليمي بين أنقرة وطهران. إذ، إن جانبا من التنافس الإقليمي التركي الإيراني، يدور على الأرض العراقية، عبر مجموعة الفصائل المسلحة التي تدعمها إيران؛ لذا يتركز اهتمام رئيس الوزراء العراقي على محاولة إنجاز صفقة مع الجانب التركي. فمن جهة يتخلص من ضغوط الفصائل العراقية في الداخل، بشأن عدم إسقاط الدعوى الثانية المرفوعة أمام غرفة التجارة الدولية، التي يُطلب فيها العراق بإلزام تركيا بدفع مبلغ التعويضات. ومن جهة أخرى، يدفع إلى الاستفادة من التعاون الاقتصادي مع أنقرة، وزيادة حجم التبادل التجاري معها.
وبالتالي، يُمكن القول بأن العراق، رغم كونه ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة الأقطار المُصدرة للنفط “أوبك”، وأنه يُصدر نحو 85 % من إنتاجه من الخام عبر موانئ في الجنوب؛ رغم ذلك، فما يزال الطريق الشمالي يتمتع بأهمية اقتصادية في تصدير النفط عبر تركيا، خاصة أن هذا النفط يُمثل حوالي 0.5 % من الإنتاج العالمي.
وهكذا، يبدو أن تركيا قد استغلت بشكل جيد التطورات الإقليمية الأخيرة، وقدمت مُقاربة جديدة للعراق تدفع إلى تحقيق تعاون أفضل، من خلال ربط “الأمن” بمشروع “طريق التنمية” الذي يتطلع إليه العراق، فضلا عن قضايا المياه والطاقة واستئناف تصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية.