رؤى

التقديم والتأخير.. ودلالة العلاقة بين “ٱلنَّاسِ” و”ٱلۡقُرۡءَان”

بناء على اللسان القرءاني، قواعده ومحاولة تدبره، نستمر في محاولاتنا المتتالية لدراسة التقديم والتأخير، بحسبه مقدمةً في علم الدلالة القرءانية. وهنا.. لنا أن نقترب من التعبير القرءاني “وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ”، الذي يأتي في موضع؛ ليتقدم على “ٱلنَّاسِ”، كما في قوله سبحانه: “وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا” [الكهف: 54]. بينما في موضع آخر، يأتي ليتأخر عن “ٱلنَّاسِ”، كما في قوله تعالى: “وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا” [الإسراء: 89].

وهنا.. لنا أن نؤكد على عددٍ من الملاحظات:

الملاحظة الأولى، تتعلق بلفظ “صرف” الذي ورد في القرءان الكريم في “ثلاثين” موضعًا، جاء في خمسة وعشرين منها بصيغة الفعل، كما في قوله سبحانه: “وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا نُفُورٗا” [الإسراء: 41]؛ وجاء في خمسة مواضع بصيغة الاسم، كما في قوله تعالى: “فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِيعُونَ صَرۡفٗا وَلَا نَصۡرٗاۚ وَمَن يَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابٗا كَبِيرٗا” [الفرقان: 19].

ومن المنظور اللساني، يؤشر “صَرَفَ” إلى رجع الشيء، بمعنى “رد الشيء من حالة إلى حالة أو إبداله بغيره”. أما مصطلح “صرَّف” (بتشديد الراء)، فهو يُلمح إلى التبيين والإيضاح. وخلافًا لمن يدّعون أن اللفظ له أكثر من معنى، حيث إن هذه مقولة “غير صحيحة”؛ فإنه، أي المصطلح، في نظرنا، يكتسب شحنات دلالية مُضافة تبعًا للحرف التالي له.

ففي حال كان الحرف “عن” فهو، أي المصطلح، يدل على “التبيين عن” أو “الدفع”، كما في قوله سبحانه: “وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصۡرِفۡ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا” [الفرقان: 65]. وفي حال كان الحرف “إلى”، فهو يدل على “التبيين لـ” أو “التوجيه”، كما في قوله تعالى: “وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ…” [الأحقاف: 29].

أما إذا كان الحرف “بين”، فهو يدل على “التبيين على” أو “التقسيم/التوزيع”، كما في قوله عزّ وجل: “وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا ٭ لِّنُحۡـِۧيَ بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗا وَنُسۡقِيَهُۥ مِمَّا خَلَقۡنَآ أَنۡعَٰمٗا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرٗا ٭ وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَٰهُ بَيۡنَهُمۡ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا” [الفرقان: 48-50].

أما ثاني الملاحظات، فهي ما تختص بالتقديم والتأخير، في ما بين “ٱلنَّاسِ” و”ٱلۡقُرۡءَان”، في آيتي [الكهف: 54]، و[الإسراء: 89].

وهنا.. نُعيد التأكيد على أهمية السياق في محاولة فهم القرءان وتدبره؛ إذ لا نبالغ إذا قلنا أن “السياق القرءاني” هو المفتاح في فهم، أو بالأحرى محاولة فهم الدلالة القرءانية، التي يتقاطع عندها المصطلح والمفهوم القرءانيين.

ففي سورة “الإسراء” يأتي السياق لتعداد نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان. إذ يقول سبحانه: “وَإِذَآ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَـُٔوسٗا” [الإسراء: 83].. إلى أن يقول تعالى: “وَلَئِن شِئۡنَا لَنَذۡهَبَنَّ بِٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَيۡنَا وَكِيلًا ٭ إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّ فَضۡلَهُۥ كَانَ عَلَيۡكَ كَبِيرٗا” [الإسراء: 86-87].

ثم يأتي التحدي الإلهي لـ”ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ”، في قوله عزَّ من قائل: “قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٭ “وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا” [الإسراء: 88-89]. وبالتالي، تتبدى بوضوح دلالات تقديم “ٱلنَّاسِ” على “ٱلۡقُرۡءَان”.

أما في سورة “الكهف”، يأتي السياق مختلفًا عن سياق سورة “الإسراء”؛ فهو يأتي في إطار تبيان القدرة الإلهية للخالق الأعظم. إذ، يقول سبحانه: “وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا” [الكهف: 47].. إلى أن يقول تعالى: “مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا ٭ وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا” [الكهف: 51-52].

وعبر هذا السياق، تأتي الآية الكريمة: “وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا” [الكهف: 54]؛ ليتقدم فيها “ٱلۡقُرۡءَان” على “ٱلنَّاسِ”.

وليست هذه هي الملاحظة الوحيدة بخصوص اختلاف السياق في ما بين سورتي “الإسراء” و”الكهف” بل يُمكن أن نُضيف جانبين آخرين، لتوضيح دلالات التقديم والتأخير في السورتين.

فمن جانب، لنا أن نُلاحظ خاتمة الآيتين.. ففي ختام آية “الإسراء”، جاء قوله سبحانه: “فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا” [الإسراء: 89]. و”الكفور” هو “جحد النعم”، من حيث إن “الكَفور” هو المُقابل لـ”الشاكر”، كما يأتي في قوله عزَّ وجل: “إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا” [الإنسان: 3]. وكما يبدو، فقد جاء ختام الآية مُناسبًا لما تقدم من السياق الذي تضمن ذكرًا للنعمة والرحمة والفضل الإلهي.

أما ختام آية “الكهف”، فقد جاء قوله تعالى: “وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا” [الكهف: 54]؛ وهو يتناسب تمامًا مع السياق القرءاني الذي وردت فيه الآية الكريمة، والذي يتضمن المحاورات والجدل.. من مثل قوله سبحانه: “فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا” [الكهف: 34]، وقوله تعالى: “وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ” [الكهف: 56]؛ هذا، فضلًا عما تضمنه السياق من محاورة موسى عليه السلام ومجادلته العبد الصالح في ما كان يفعل (بإذن ربه).

من جانب آخر، لنا أن نُلاحظ مقدمة كل من السورتين.. ففي مقدمة سورة “الإسراء”، يأتي قوله سبحانه: “سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ” [الإسراء: 1]؛ ومن ثم، فقد بدأ الخطاب القرءاني بالحديث عن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، ثم عن النبي موسى عليه السلام: “وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ…” [الإسراء: 2]؛ ثم، عن “بني إسرائيل”، ثم عن القرءان والمؤمنين: “إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا” [الإسراء: 9].

وبالتالي، تتبدى الدلالة القرءانية في تقديم “ٱلنَّاسِ” على “ٱلۡقُرۡءَان”، في آية “الإسراء”.

أما في مقدمة سورة “الكهف”، فيأتي قوله تعالى: “ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ٭ قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا” [الكهف: 1-2]؛ ومن ثم، فقد بدأ الخطاب القرءاني بالحديث عن “ٱلۡكِتَٰبَ”. ثم، وفي إطار الحديث عن أصحاب الكهف، وموسى والعبد الصالح، وذا القرنين، يأتي الأمر الإلهي: “وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا” [الكهف: 27].

وبالتالي، تتبدى الدلالة القرءانية في تقديم “ٱلۡقُرۡءَان” على “ٱلنَّاسِ”، في آية “الكهف”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock