رؤى

التقديم والتأخير.. والتناسق الدلالي في السياق القرءاني

يأتي اصطلاح “الدلالة القرءانية”، المُركب من مصطلحي “الدلالة” و”القرءان”، ليُعبر عن هداية الله سبحانه للإنسان، بأن دلَّه على الحقائق القرءانية، التي أراد الله تعالى أن يهدي بها الإنسان، إلى طريق “الحق”، لكي يتمكن من إنجاز المهمة التي أرادها الله له “فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ” [البقرة:30].

ومن ثم، وكما أشرنا في مقالنا السابق، فعندما يضاف مصطلح “الدلالة” إلى مصطلح “القرءان”، لتأخذ الجملة شكل “دلالة القرءان”، أو “الدلالة القرءانية”، فهي تأتي من باب الإضافة إلى السبب؛ وذلك من منظور أن القرءان هو السبب الذي يُغرف من خلاله ” مُراد الله سبحانه وتعالى”. إذ ليس في التنزيل الحكيم كله، إلا قوله عزَّ وجل؛ أما ما فيه من أقوال الملائكة والجن والإنس والحيوان وغيرها، فليست بأقوال مستقلة، وإنما هي “أقوال مَحْكِية” بالقول الإلهي.

وبناء على اللسان القرءاني (قواعده ومحاولة تدبره) نستمر في محاولاتنا المتتالية لدراسة التقديم والتأخير، كمقدمة في علم الدلالة القرءانية.. أو بالأحرى: نستمر في دراسة “تبادلية” المصطلحات والتعبيرات القرءانية، تناسبا مع السياق القرءاني.

وهنا لنا أن نقترب من مصطلحي “نَفۡعٗا” و”ضَرًّا”، الذي يأتي الأول ليتقدم على الثاني، في بعض مواضع التنزيل الحكيم؛ في حين أنه في بعض المواضع الأُخرى، يأتي ليتأخر عنه، في تناسب وتناسق بديع؛ مع السياق القرءاني الذي ترد فيه الآية الكريمة محل البحث.

وقد ورد تقديم “نَفۡعٗا” على “ضَرًّا”، في آيات التنزيل الحكيم، في “ثلاثة” مواضع؛ كلها، دونما استثناء، يأتي السياق الذي ترد فيه الآية الكريمة، ليبدأ بـ”قُل”. ضمن هذه المواضع، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ” [الأعراف: 188].

وكما هو واضح، من سياق الآية الكريمة، فقد تقدمت “نَفۡعٗا” على “ضَرًّا”، كما  تقدم “ٱلۡخَيۡرِ” على “ٱلسُّوٓءُۚ”، في قوله سبحانه: “وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ”. هذا عن سياق الآية؛ أما عن السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة، فقد تقدم فيه “مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ” على “مَن يُضۡلِلۡ”، قبل هذه الآية، في قوله تعالى: “مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِيۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ” [الأعراف: 178].

أيضا في السياق نفسه، يأتي تقديم “يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ” على “ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ”، وذلك في قوله عزَّ وجل: “وَمِمَّنۡ خَلَقۡنَآ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَنَسۡتَدۡرِجُهُم مِّنۡ حَيۡثُ لَا يَعۡلَمُونَ” [الأعراف: 181-182]. وهو ما يُشير إلى أهمية سياق الآية، والسياق الذي وردت فيه الآية، في محاولة التدبر الدلالي، بل والتدبر عموما، لآيات التنزيل الحكيم.

يتأكد هذا إذا لاحظنا قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعٗا وَلَا ضَرّٗاۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَيۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ” [الرعد: 16]. إذ هنا، في هذه الآية الكريمة، يأتي تقديم “نَفۡعٗا” على “ضَرًّا”، نتيجة التناسق الدلالي مع السياق الذي وردت فيه الآية؛ حيث تقديم “طَوۡعٗا” على “كَرۡهٗا” في الآية الكريمة التي سبقتها مُباشرة؛ نعني قوله سبحانه: “وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ” [الرعد: 15].

أيضا يأتي تقديم “نَفۡعٗا” على “ضَرًّا”، في قوله عزَّ من قائل: “فَٱلۡيَوۡمَ لَا يَمۡلِكُ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٖ نَّفۡعٗا وَلَا ضَرّٗا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ” [سبإ: 42]؛ حيث التناسق الدلالي مع السياق الذي وردت في الآية. إذ، يأتي تقديم “يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ” على “يَقۡدِرُ”، في ما سبق هذه الآية، نعني قوله تعالى: “قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ” [سبإ: 39].

إضافة إلى هذه المواضع الثلاثة، في آيات التنزيل الحكيم، التي ورد فيها تقديم “نَفۡعٗا” على “ضَرًّا”؛ يأتي تقديم “ضَرًّا” على “نَفۡعٗا”، في “أربعة” من المواضع في آيات التنزيل الحكيم. والمُلاحظ، أن هذه المواضع، جميعها، تأتي في إطار الحوار القرءاني بشأن “التوحيد”، ونفي “الشرك في العبادة” عن الله الواحد الأحد: “سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّٗا كَبِيرٗا” [الإسراء: 43].

ضمن هذه المواضع، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ” [المائدة: 76]. وكما هو واضح، من سياق الآية، فقد تقدمت “ضَرًّا” على “نَفۡعٗا”، في إطار البرهان العقلي على التوحيد؛ بل إن السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة، يأتي دالا في هذا الإطار؛ حيث قوله سبحانه: “وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ” [المائدة: 72]. وفي السياق نفسه يأتي قوله تعالى، تأكيدا على تأكيد: “مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٭ قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ” [المائدة: 75-76].

ضمن المواضع أيضا، وفي إطار الحديث عن “بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ”، الذين “أَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ”، وجعلهم يعبدون “عِجۡلٗا جَسَدٗا”؛ يأتي قوله عزَّ وجل: ” فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ٭ أَفَلَا يَرَوۡنَ أَلَّا يَرۡجِعُ إِلَيۡهِمۡ قَوۡلٗا وَلَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا” [طه: 88-89]. وهنا، تتأكد دلالة تقديم “ضَرًّا” على “نَفۡعٗا”، في إطار الحوار القرءاني بشأن “التوحيد”، ونفي “الشرك في العبادة” عن الله الواحد الأحد.

وهو كذلك، التأكيد نفسه الذي يأتي عبر قوله سبحانه: “وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗ لَّا يَخۡلُقُونَ شَيۡـٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ وَلَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا وَلَا يَمۡلِكُونَ مَوۡتٗا وَلَا حَيَوٰةٗ وَلَا نُشُورٗا” [الفرقان: 3]. وكما يتبدى بوضوح، عبر الآية الكريمة، يأتي تقديم “ضَرًّا” على “نَفۡعٗا”، في إطار الحوار القرءاني نفسه، بشأن “التوحيد”؛ إضافة إلى التناسب، والتناسق، الدلالي في سياق الآية نفسها، حيث يأتي تقديم “لَّا يَخۡلُقُونَ شَيۡـٔٗا” على “وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ”، وأيضًا، تقديم “مَوۡتٗا” على “حَيَوٰةٗ”.

ثم، يأتي الموضع الرابع، والأخير، ضمن مواضع تقديم “ضَرًّا” على “نَفۡعٗا”، عبر قوله تعالى: “قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي ضَرّٗا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ” [يونس: 49]. والمُلاحظ، أن السياق العام الذي وردت فيه الآية الكريمة، يأتي فيه تقديم “ٱلشَّرَّ” على “ٱلۡخَيۡرِ”، في قوله سبحانه: “وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ” [يونس: 11]. كما يأتي فيه تقديم “مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ” على “كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ”، في قوله تعالى: “وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡمُسۡرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ” [يونس: 12].

وهو ما يؤكد التناسب، والتناسق، الدلالي في السياق القرءاني.. وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock