رؤى

الدلالة القرءانية.. و”تبادلية” أدوات الاستفهام

الاستفهام، صيغة تؤشر إلى “طلب الفهم”؛ بمعنى أنه “أسلوب السائل لمعرفة شيء لا يعرفه”. ومن بين أدوات الاستفهام، في اللسان العربي، تأتي كل من “ما” و”ماذا”، كأداتين من هذه الأدوات، التي تؤشر إلى طلب معرفة شيء ما.

بالنسبة إلى “ما”، فهي تأتي على ضربين حرف واسم، ولكل منهما استعمالات عدة. فمن استعمالات “ما” الحرفية، أنها تأتي للاستفهام. أما الاسمية، فهي تُستخدم للاستفهام عن “غير العاقل”. وقد وردت في آيات التنزيل الحكيم، في مواضع عدة؛ منها قوله سبحانه وتعالى: “مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا” [النساء: 147].. وفي قوله سبحانه: “وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ” [طه: 17].. وفي قوله تعالى: “ٱلۡحَآقَّةُ ٭ مَا ٱلۡحَآقَّةُ ٭ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ” [الحاقة: 1-3].

وفي الوقت الذي تأتي “ما” للاستفهام عن الفعل أو الاسم، نحو ما فعلت؟، ما الأمر؟.. فإن “ماذا” تأتي للاستفهام عن الفعل فقط، نحو ماذا فعلت؟. وقد وردت “ماذا” في القرءان الكريم، في مواضع عدة؛  منها: قوله سبحانه وتعالى: “يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ…” [البقرة: 215].. وقوله سبحانه: “قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُهُۥ بَيَٰتًا أَوۡ نَهَارٗا مَّاذَا يَسۡتَعۡجِلُ مِنۡهُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ” [يونس: 50].. وقوله تعالى: “وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ…” [النحل: 30].

أما في حال الاستفهام بـ”ماذا” عن الاسم، فهنا تتحول إلى “ما” الاستفهامية، و”ذا” الإشارية؛ بمعنى أن “ماذا الأمر؟”، هو استفهام يؤشر إلى “ما هذا الأمر؟”.

إلا أنه من المنظور الدلالي، هناك فارق بين “ما” و”ماذا”؛ وهنا، نؤكد على ما ذكره المفكر العراقي فاضل السامرائي، في أطروحته “بلاغة الكلمة في التعبير القرءاني، 2016″، من أن “ماذا” تتضمن قوة ومبالغة في الاستفهام، أكثر مما تتضمنه “ما” الاستفهامية؛ وهو ما يتبدى بشكل واضح عبر المقارنة بين قصة النبي “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام مع قومه، في سورتي “الصافات”، و”الشعراء”.

ومن خلال ملاحظة الدلالة القرءانية لكل من “ما” و”ماذا”، خاصة في حال تبادل مواضع ورودهما، في قصة “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام، نجد أن ورود “ماذا” يأتي في سياق “التقريع”، أو الانتقاد، الذي يقوم به “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام لقومه، نتيجة ما يعبدونه من دون الله سبحانه وتعالى؛ في حين أن ورود “ما” يأتي في سياق المجابهة القوية، والمُحاججة، بين “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام وقومه.

بالنسبة إلى الاستفهام عن طريق “ماذا”، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٭ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٭ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ ٭ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِۦ لَإِبۡرَٰهِيمَ ٭ إِذۡ جَآءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبٖ سَلِيمٍ ٭ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ ٭ أَئِفۡكًا ءَالِهَةٗ دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ ٭ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ” [الصافات: 79-87].

وهنا، لنا أن نلاحظ كيف يأتي السياق القرءاني دالًا على انتقاد نبي الله “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام لقومه؛ بدليل أن قومه لم يحاولوا الإجابة على سؤاله المطروح عليهم، في حين مضى هو في انتقاده لهم: “أَئِفۡكًا ءَالِهَةٗ دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ ٭ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ”. ومن ثم، جاءت أداة الاستفهام “ماذا”، في هذا الموضع، أكثر دلالة على انتقاد “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام لقومه.

يؤكد هذا، خاتمة القصة بين “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام وقومه، في سورة “الصافات”، التي كان ختامها “تحطيم الأصنام”؛ وذلك، عبر الآيات الكريمة التالية مباشرة، في قوله عزَّ من قائل: “فَنَظَرَ نَظۡرَةٗ فِي ٱلنُّجُومِ ٭ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ ٭ فَتَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ مُدۡبِرِينَ ٭ فَرَاغَ إِلَىٰٓ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ ٭ مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ ٭ فَرَاغَ عَلَيۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡيَمِينِ ٭ فَأَقۡبَلُوٓاْ إِلَيۡهِ يَزِفُّونَ ٭ قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ ٭ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ ٭ قَالُواْ ٱبۡنُواْ لَهُۥ بُنۡيَٰنٗا فَأَلۡقُوهُ فِي ٱلۡجَحِيمِ” [الصافات: 88-97].

وكما يتبدى، بوضوح، أن انتقاد “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام لم يتوقف عند حدود قومه فقط: “قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ”؛ بل، امتد ليشمل ما يعبد هؤلاء القوم؛ أو بالأحرى وصل الحال به إلى حد الاستهزاء مما يعبد قومه: “فَرَاغَ إِلَىٰٓ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ ٭ مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ ٭ فَرَاغَ عَلَيۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡيَمِينِ”.

أما بالنسبة إلى “ما”، فهي تأتي في سياق المجابهة القوية، والمُحاججة، بين “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام وقومه. يقول سبحانه وتعالى: “وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ إِبۡرَٰهِيمَ ٭ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا تَعۡبُدُونَ ٭ قَالُواْ نَعۡبُدُ أَصۡنَامٗا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ ٭ قَالَ هَلۡ يَسۡمَعُونَكُمۡ إِذۡ تَدۡعُونَ ٭ أَوۡ يَنفَعُونَكُمۡ أَوۡ يَضُرُّونَ ٭ قَالُواْ بَلۡ وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا كَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ” [الشعراء: 69-74].

وهنا، لنا أن نُلاحظ كيف يأتي السياق القرءاني دالًا على مُحاججة “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام لقومه، في ما يعبدون، وذلك بعد سؤاله لهم: “مَا تَعۡبُدُونَ”؛ إذ، على خلاف سورة [الصافات: 79-87]، فقد أجاب القوم على السؤال بالقول: “قَالُواْ نَعۡبُدُ أَصۡنَامٗا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ”.

ولأن السياق، هنا، في سورة [الشعراء: 69-74]، ليس سياق تقريع أو انتقاد، وإنما هو سياق مُحاججة منطقية؛ لذا، كان استمرار “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام في المُحاججة، بالتساؤل: “قَالَ هَلۡ يَسۡمَعُونَكُمۡ إِذۡ تَدۡعُونَ ٭ أَوۡ يَنفَعُونَكُمۡ أَوۡ يَضُرُّونَ”. وأمام هذه المُحاججة المنطقية، لم يجد القوم إلا القول: “قَالُواْ بَلۡ وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا كَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ”. ومن ثم، كان ورود “ما” أكثر دلالة في هذا الموضع، الذي اشتمل على كافة جوانب المُحاججة، بما اشتملت عليه من منطقية التساؤلات حول “حجية” ما يعبد هؤلاء القوم.

يؤكد هذا خاتمة القصة بين “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام وقومه، في سورة “الشعراء”، التي كان ختامها “البيان الإبراهيمي” للفارق بين الله سبحانه وتعالى، “إله إبراهيم”، وآلهة قومه التي يدعون؛ كما يتبين ذلك عبر قوله عزَّ وجل: “قَالَ أَفَرَءَيۡتُم مَّا كُنتُمۡ تَعۡبُدُونَ ٭ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُمُ ٱلۡأَقۡدَمُونَ ٭ فَإِنَّهُمۡ عَدُوّٞ لِّيٓ إِلَّا رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ ٭ وَٱلَّذِي هُوَ يُطۡعِمُنِي وَيَسۡقِينِ ٭ وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ ٭ وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحۡيِينِ ٭ وَٱلَّذِيٓ أَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لِي خَطِيٓـَٔتِي يَوۡمَ ٱلدِّينِ” [الشعراء: 75-82].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock