رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة اسم الله “ٱلۡخَٰلِقْ”

في محاولتنا الاستمرار في الحديث عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، يأتي حرف “الألف”، مؤشرا دلاليا لاختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال عدم تثبيت الحرف، يدل المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.

وفي حديثنا السابق، حول اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡبَارِئ”؛ أكدنا أن هذا الاسم قد ورد في موضع واحد مُعرفًا بـ”ألف لام” التعريف، في قوله سبحانه: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [الحشر: 24]. وذكرنا هناك أن الآية الكريمة تؤكد أن هندسة الشيء -أي شيء- تعود إلى هذه “ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ” الثلاثة: “ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ”، فما من شيء إلا ويرجع إلى هذه “الأسماء” الثلاثة في صورته واختصاصاته.

إذ يكفي أن نتأمل قوله سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ٭ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٭ فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ” [الانفطار: 6-8]. أيضًا، قوله سبحانه: “هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [آل عمران: 6]؛ وقوله تعالى: “ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ” [غافر: 64].

وهنا فإن الحديث عن اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡخَٰلِقُ”، ينطلق من ملاحظة مفادها إن “ٱلۡبَارِئ” مما خُصّ الله عزَّ وجل بوصفه؛ أي إن “ٱلۡبَارِئ” هو اسم فاعل خاص بالله، غير مشترك مع غيره سبحانه، كما هو حال اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡخَٰلِقُ”؛ كما يرد في قوله سبحانه: “ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ” [المؤمنون: 14].

بعبارة أخرى، فإن “ٱلۡخَلۡقَ” في التنزيل الحكيم، في الوقت الذي يأتي فيه منسوبًا إلى الله تبارك وتعالى؛ فإنه -في الوقت نفسه- يأتي منسوبًا كذلك لغير الله؛ وهو ما يتبدى بوضوح عبر الاصطلاح القرءاني “أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ”، الذي ورد “مرتين” في آيات التنزيل الحكيم؛ إحداهما في [المؤمنون: 14].. والأخرى، في قوله تعالى: “وَإِنَّ إِلۡيَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَلَا تَتَّقُونَ ٭ أَتَدۡعُونَ بَعۡلٗا وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ٱلۡخَٰلِقِينَ” [الصافات: 123-125].

أيضًا، فقد ورد “ٱلۡخَلۡقَ” في التنزيل الحكيم، منسوبًا إلى رسول الله المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، كما في قوله عزَّ وجل: “وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ” [المائدة: 110]. وكذلك، ورد منسوبًا إلى قوم نبي الله إبراهيم عليه السلام، كما في قوله عزَّ من قائل: “وَإِبۡرَٰهِيمَ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُۖ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٭ إِنَّمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَٰنٗا وَتَخۡلُقُونَ إِفۡكًاۚ…” [العنكبوت: 16-17].

لكن رغم ذلك، أو بالرغم من أن فعل “ٱلۡخَلۡقَ” قد ورد في التنزيل الحكيم، منسوبا إلى الله سبحانه، وإلى غيره؛ فقد جاء هذا الانتساب الأخير، ضمن الإطار العام الذي تفرد به الخالق الأعظم سبحانه وتعالى. هذا التفرد الذي ورد عبر الاصطلاح القرءاني “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”؛ الذي ورد في “أربعة” مواضع، ضمن المواضع “الثمانية” التي ورد فيها اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡخَلۡقْ”.

ورغم أننا كنا قد تناولنا اصطلاح “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”، من قبل عند الحديث عن “التقديم والتأخير” ودلالته القرءانية؛ إلا أننا هنا نتناول الاصطلاح من منظور مختلف، يستند إلى دلالة حذف حرف الألف في المصطلح القرءاني “خَٰلِقُ”.

وبداية.. لنا أن نتأمل كيف ورد اصطلاح “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ” مع صيغة التوحيد القرءانية “لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ”، وذلك في موضعين “اثنين”؛ في قوله سبحانه: “ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ” [الأنعام: 102].. وأيضا، في قوله تعالى: “ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [غافر: 62].

أما الموضعين الآخرين، اللذين ورد فيهما اصطلاح “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”؛ فهما في قوله سبحانه: “ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ” [الزمر: 62]. أما الثاني، فهو قوله تعالى: “قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعٗا وَلَا ضَرّٗاۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَيۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ” [الرعد: 16].

وما نود التأكيد عليه، عبر هذه المواضع “الأربعة” التي ورد فيها اصطلاح “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”، أن اسم الفاعل “خَٰلِقُ”، اسم الله تبارك وتعالى، قد ورد فيها جميعا دونما تثبيت حرف الألف؛ بما يؤشر إلى الجانب الوظيفي في المصطلح القرءاني “خَٰلِقْ”.

ولعل ذلك يعود إلى أن فعل “ٱلۡخَلۡقَ” في التنزيل الحكيم، في الوقت الذي يأتي فيه منسوبا إلى الله تبارك وتعالى؛ فإنه يأتي أيضا منسوبا كذلك لغير الله. كما يعود إلى الدلالة “الوظيفية” ـ دون “المادية” ـ في فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عندما يرد منسوبًا إلى المولى عزَّ وجل. أي إن حذف حرف الألف، رسمًا قرءانيًا، من اسم الله تبارك وتعالى، يؤشر إلى فعل “ٱلۡخَلۡق” وظيفيًا، وليس قيام الخالق الأعظم بهذا الفعل ماديا.

يؤكد هذا قوله سبحانه: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ” [ص: 71]؛ وأيضًا، قوله تعالى: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ” [الحجر: 28]. إلا أن ما يوضح المسألة أكثر، هو قوله عزّ وجل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [فاطر: 3]. إذ هاهنا تتبدى بوضوح الدلالات الوظيفية في السياق القرءاني للآية الكريمة؛ وهي الدلالات التي تبدو عبر التساؤل الإلهي: “هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ”.

ثم يأتي الموضع الأخير، الموضع “الثامن” الذي ورد فيه اسم الفاعل “خَٰلِقْ”، وهو الموضع الوحيد الذي ورد فيه مُعرفًا بـ”ألف لام” التعريف؛ نعني قوله عزَّ من قائل: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [الحشر: 24].

وهنا، نُعيد التأكيد على أن الآية الكريمة تُشير إلى وتدل على، أن هندسة الشيء -أي شيء- تعود إلى هذه “ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ” الثلاثة: “ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ”، فما من شيء إلا ويرجع إلى هذه “الأسماء” الثلاثة في صورته واختصاصاته.

ويتبقى أخيرا التساؤل الذي سوف يُثيره البعض: كيف يأتي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” وظيفيًا، رغم أننا نشاهد كل الأشياء المخلوقة “مادية”؟

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock