ورد التعبير القرءاني “كُن فَيَكُون”، في التنزيل الحكيم، في “ثمانية” مواضع؛ والأهم أنه يأتي دلالة على “ٱلۡحَقُّۚ” في القول الإلهي “وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ”.. وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ” [الأنعام: 73].
ولأن فعل الله سبحانه هو عين قوله تعالى؛ لذا يثور التساؤل: ما هي علاقة هذا التعبير القرءاني، أو بالأصح القول الإلهي “كُن فَيَكُون”، بمسألة “ٱلۡخَلۡقَ”.
وتتبدى أهمية هذا التساؤل، من ملاحظة أنه بالرغم من ورود فعل “ٱلۡخَلۡقَ”، في التنزيل الحكيم، منسوبا إلى الله سبحانه وإلى غيره؛ إلا أن هذا الانتساب الأخير، قد جاء ضمن الإطار العام الذي تفرّد به الخالق الأعظم تبارك وتعالى، الذي ورد عبر الاصطلاح القرءاني “خَٰلِقُ كُلِّ شَيءٖ”؛ الذي ورد في “أربعة” مواضع، ضمن المواضع “الثمانية” التي ورد فيها اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡخَلۡقْ”.
وهنا، نُعيد التأكيد على ما أشرنا إليه في حديثنا السابق، حول “دلالة سؤال ٱلۡخَلۡقَ” من أنه في التنزيل الحكيم، يأتي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” لسانيا ليشمل أحد جانبين: إيجاد الشيء من الشيء، أي من مادة سابقة؛ أو إيجاد الشيء من غير سابقة.
في الجانب الأول، أي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عبر إيجاد الشيء من الشيء، أي من مادة سابقة؛ يأتي قوله سبحانه وتعالى: “خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ” [النحل: 4]. ولنا أن نُلاحظ التعبير القرءاني: “مِن نُّطۡفَةٖ”، في الآية الكريمة.
أما بالنسبة إلى الجانب الآخر، أي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عبر إيجاد الشيء من غير سابقة؛ يأتي قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ” [آل عمران: 190].. وقوله سبحانه: “ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 1].
وهنا، لنا أن نُلاحظ أن الآيات التي تتحدث عن “خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ”، إنما تُشير إلى إبداعها من حيث إنها لم تكن موجودة؛ بيد أن هذا لا يعني أن “ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ” مخلوقة من عدم، بل هي مسبوقة بعدم.. والفارق كبير بين المعنيين.
ولكن ما علاقة ذلك بالتعبير القرءاني “كُن فَيَكُونُ”؟
بداية، فقد ورد فعل “ٱلۡخَلۡقَ” متواكبًا مع القول الإلهي “كُن فَيَكُونُ” في “ثلاثة” مواضع.. فمن جانب، يرد في الآية التي استشهدنا بها في بداية حديثنا هذا، حيث يقول سبحانه وتعالى: “وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ” [الأنعام: 73]. وكما يبدو، عبر سياق الآية الكريمة، فإن “كُن فَيَكُونُ” ينصرف إلى يوم القيامة، أو تحديدا “يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ”؛ و”التكوين” في هذا اليوم، الذي تكون فيه السماء غير السماء والأرض غير الأرض، هو “تكوين تحويلي” إذا جاز التعبير. إذ حتى “بعث” الأجساد هو “تحويل” لها من الموت إلى الحياة.
من جانب آخر، يرد فعل “ٱلۡخَلۡقَ” متواكبا مع القول الإلهي “كُن فَيَكُونُ”، في الإخبار القرءاني عن النبي عيسى عليه السلام، وأمه مريم الصديقة. يقول سبحانه: “إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” [آل عمران: 59]. وهنا، يتبدى بوضوح أن فعل “ٱلۡخَلۡقَ” جاء من مادة سابقة “مِن تُرَابٖ”؛ ثم جاء فعل التكوين “كُن فَيَكُونُۚ”؛ بما يعني أن القول الإلهي “كُن فَيَكُونُۚ”، لم يجر في فضاء عدمي صرف كما يتوهم البعض.
وهنا لنا أن نُعيد التأكيد على ابتعاد المعنى الذي أوردته “معاجم اللغة” لمفهوم “ٱلۡخَلۡقَ”، عن الدلالة الحقيقية للمفهوم في آيات التنزيل الحكيم. إذ إن “التقدير” الذي تورده تلك المعاجم، لا يتوافق مع معنى “ٱلۡخَلۡقَ” على الحقيقة؛ فـ”التقدير” أي تشخيص خصائص وأبعاد وسمات “المخلوق” أي “التصميم” يحدث في ما قبل فعل “ٱلۡخَلۡقَ” نفسه؛ هذا رغم أن القرءان الكريم يورد فعل “ٱلۡخَلۡقَ”، للإشارة إلى الإيجاد الفعلي. ولعل ذلك، يتأكد عبر سياق الآية الكريمة التي يرد فيها فعل “ٱلۡخَلۡقَ” متواكبا مع القول الإلهي “كُن فَيَكُونُۚ”.. نعني قوله تعالى: “قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” [آل عمران: 47].
ولعل الإخبار القرءاني بأن “ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ”، في الوقت الذي يأتي فيه ردا إلهيا حول تساؤل مريم الصديقة “قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ”؛ فإنه -في الوقت نفسه- يرد مُرتبطًا بالقضاء الإلهي “إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ”. بل إن القضاء الإلهي نفسه يأتي مُرتبطا بالقول الإلهي “كُن فَيَكُونُۚ”.
هذا الارتباط بين القضاء والقول الإلهيين، يَرِد إضافة إلى هذا الموضع، في “ثلاثة” مواضع أُخرى.. في قوله سبحانه وتعالى: “وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ ٭ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” [البقرة: 116-117]؛ وفي قوله سبحانه: “مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” [مريم: 35]. ثم، في قوله تعالى: “هُوَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” [غافر: 68].
ومن الواضح، عبر سياق هذه الآيات الكريمات، الارتباط بين الأفعال الإلهية، “يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ” كمثال، مع القضاء والقول الإلهيين اللذين تسبقهما “إِذَا” الحتمية. بل لنا أن نُلاحظ، عبر سياق قوله عزَّ من قائل: “هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٭ هُوَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” [غافر: 67-68].. لنا أن نُلاحظ، أن مسألة التكوين من خلال القول الإلهي “كُن فَيَكُونُۚ”، يتضمن هذه التحولات الهائلة في “مادة الخلق” الإنساني، فضلا عن أن موضوعها الإحياء والإماتة كفعلين إلهيين “هُوَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ”.
وإذا كانت هذه الأفعال الإلهية، ليست “خلقًا من عدم”، كما يرى الكثيرون؛ فإن ما يؤكد قولنا هذا هو دلالة ورود اصطلاح “شيء”، في قوله عزَّ وجل: “إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ” [النحل: 40]؛ وأيضًا، في قوله عزَّ من قائل: “إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٭ فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ” [يس: 82-83].
إذ، هاهنا، تتضح المعادلة: الرجوع بعد الحياة والموت، أو قل: الإعادة يوم الحشر والنشر؛ فمن خلال هذه الآية الكريمة [يس: 82-83]، تتبدى كيفية الربط القرءاني بين الرجوع لله “وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ”، وبين الملكوت “فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ”.. فـ”الملكوت”، كصيغة مُبالغة من “المُلك”، هو جهة إمكان الأشياء، وهو من أبرز صفات المقدورات، ليس بحكم كونها الصفة الجامعة فقط؛ بل، لأن الإمكان هو سبب حدوث الأشياء. ولنا أن نتأمل، كيف ورد حشد لأسماء الله تعالى في السياق، من علم وخلق وإرادة وقدرة.
وللحديث بقية.