يمضي العمل على مشروع النفق بين المغرب وإسبانيا على قدم وساق، وسط تساؤلات حول إذا ما كان هذا المشروع سيرى النور، قبل مونديال 2030 الذي ستنظمه كل من إسبانيا والمغرب والبرتغال؛ حيث يحظى هذا المشروع، الذي أُطلق عليه “مشروع القرن”، أو الربط القاري، باهتمام دولي كبير، خاصة من جانب الدول الغربية، وذلك بالنظر إلى الفوائد الاقتصادية له، ليس للبلدين فحسب، ولكن لاقتصاد القارتين الأفريقية والأوروبية أيضا.
ولا يرتبط مشروع النفق بين المغرب وإسبانيا، أو الربط القاري، بقبول الملف المغربي الإسباني لتنظيم نهائيات كأس العالم 2030؛ ولكن الملامح الأولى للمشروع كانت قد بدأت منذ عام 1979، عقب لقاء جمع الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، والملك الإسباني السابق خوان كارلوس، أبديا فيه رغبتهما في العمل على تطوير الفكرة.
تماشيا مع وجود مساعي من طرف الولايات المتحدة الأمريكية لحث إسبانيا والمغرب للمضي قُدمًا في هذا المشروع، وإنجاز نفق بحري يربط بين الدولتين، عند تقاطع المحيط الأطلنطي والبحر الأبيض المتوسط؛ عاد مشروع الربط القاري بين أوروبا وأفريقيا، عبر مضيق جبل طارق، إلى الواجهة من جديد.
وتبدو الأهمية الاستراتيجية لمشروع الربط بين أوروبا وأفريقيا، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، والغرب بصفة عامة، من منظور أن إنجاز الربط عبر مضيق جبل طارق، سيساهم في رفع التبادل التجاري بين أوروبا وأفريقيا؛ وبالتالي، زيادة النفوذ الغربي في القارة السمراء على حساب روسيا والصين؛ ولذلك، تطالب الولايات المتحدة كل من مدريد والرباط بتحديث الدراسات المتعلقة بهذا المشروع، والشروع في إنجاز الخطوات الأولى منه.
وقد سبق أن وقّع الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، والإسباني السابق خوان كارلوس- اتفاقية خلال زيارة الأخير للرباط، عام 1979، جرى بموجبها إنشاء شركتين، إحداهما إسبانية والأخرى مغربية، لدراسات الربط القاري عبر مضيق جبل طارق، حيث عُقدت اجتماعات مختلطة إلى أن توقفت عام 2010. إلا أن تطبيع العلاقات بين الرباط ومدريد، مهّد الطريق لإعادة إطلاق مشروع نفق الربط القاري، الذي يربط مدينتي طريفة وطنجة، بطول 42 كيلو متر وعمق 300 متر، والمخصص لنقل البضائع وحركة الأشخاص؛ فضلا عن إمكانية ربط هذا النفق وخط أنابيب الغاز “المغربي، النيجيري، الأوروبي”.
ورغم أن ذلك يأتي في إطار التوجهات الغربية للاستثمار في أفريقيا، ومحاولة عرقلة النمو المتصاعد لكل من روسيا والصين، على الساحة الأفريقية؛ إلا أن المشروع يشهد نوعا من التنافس بين بريطانيا وإسبانيا للفوز بتنفيذه، لما له من أهمية استراتيجية في المستقبل.
وثمة عدد من المؤشرات على أهمية المشروع بالنسبة إلى كل من مدريد ولندن، وعلى التنافس بينهما حوله.. أهمها مؤشرين اثنين:
فمن جهة، سارعت إسبانيا بتطبيع علاقاتها مع المغرب، خاصة بعد تأييدها للمقترح المغربي بشأن الصحراء الغربية. ولعل ذلك يعود إلى القلق الإسباني من خطط لندن، وتوجهها لإنشاء تحالفات استراتيجية جديدة وإعادة ترتيب أوراقها الدبلوماسية، لاسيما مع أفريقيا. ومن ثم، ففي ظل التحركات الثنائية بين المغرب وبريطانيا، ستضطر إسبانيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات، للاستفادة من النتائج الآنية والمستقبلية لمشروع الربط القاري بين أوروبا وأفريقيا، الذي ربما سيُعيد إلى الواجهة مستقبل “جبل طارق” من جانب، ومستقبل المدينتين المغربيتين “سبتة ومليلية” من جانب آخر.
ويتبدى ذلك بوضوح، بملاحظة أن مضيق جبل طارق البحري، الذي يفصل المحيط الأطلنطي والبحر الأبيض المتوسط، يقع بين المغرب وإسبانيا و”مستعمرة جبل طارق البريطانية”، بحسب وصف الاتحاد الأوروبي؛ وهو ما يعني أن التنافس على مشروع الربط القاري، بين لندن ومدريد، يأتي في إطار الخلاف الأوسع بينهما حول “حق السيادة” على منطقة جبل طارق، الذي تطالب بها إسبانيا منذ عام 1713، أي منذ أن تسلمتها لندن رسميا بعد انتصارها في الحرب.
ثم، يأتي مشروع الربط القاري وأنبوب الغاز النيجيري؛ فرغم أن مشروع الربط القاري عبر نفق تحت البحر، بين المغرب وإسبانيا، يعود إلى ما يزيد على أربعة عقود مضت، إلا أنه عاد إلى الواجهة بأهمية أكبر؛ خاصة بعد توقيع المغرب ونيجيريا اتفاقية إنجاز مشروع أنبوب الغاز، ودخول هذه الاتفاقية لمراحل متقدمة من التمويل وبداية التنفيذ.
من جهة أخرى، هناك الاهتمام البريطاني بمشروع الربط القاري؛ حيث تعوِّل بريطانيا كثيرًا على المغرب، باعتباره يُمثل بوابة مهمة نحو أفريقيا، ومنصة مفتوحة على الاستثمارات والمشروعات التنموية، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وما يرافقه من ضرورة البحث عن شركاء جدد وتنويع في خارطة التحالفات. وكان المغرب قد وقع اتفاقًا تجاريًا مع بريطانيا، في 26 أكتوبر عام 2019، استباقًا للانسحاب من التكتل القاري الأوروبي، لاحتواء التأثير المتوقع لهذه المغادرة الطوعية، على الجانب البريطاني.
أما على الجانب المغربي، فقد استهدفت الرباط من الاتفاق تطوير علاقاتها الثنائية مع لندن، لاسيما على الصعيدين التجاري والاقتصادي؛ وهو الهدف الذي تحقق عبر اتفاقية الشراكة الموقعة بين الجانبين، في ديسمبر عام 2020، ودخلت حيز التنفيذ في يناير 2021، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. واللافت، أن فكرة وجود نفق أو جسر، يربط بين المغرب وجبل طارق، الخاضع للسيادة البريطانية، ظلت موضوعا للتفاوض بين لندن والرباط، منذ الحوار الاستراتيجي الأول بينهما، في 5 يوليو 2018، الذي نظمه بوريس جونسون، وزير الخارجية آنذاك.
في هذا السياق، يمكن القول بأن مشروع الربط القاري، بين أوروبا وأفريقيا، عبر مضيق جبل طارق، يمثل “نقلة نوعية” في التعاون الأوروبي الأفريقي، بل وفي التعاون الأوروبي الشرق أوسطي؛ إذ، سيصبح مضيق جبل طارق طريقًا آمنًا لمنتجات الطاقة القادمة من أفريقيا والشرق الأوسط.
ورغم المنافسة بين بريطانيا وإسبانيا لإنشاء النفق البحري، الذي سيربط أوروبا بأفريقيا؛ بل، ورغم أن المشروع المغربي البريطاني، يمكن أن يحل محل المشروع المغربي الإسباني، على الأقل بالنظر إلى تجربة بريطانيا في هذا المجال، من خلال مشروع “النفق الإنجليزي” مع فرنسا عبر بحر المانش.. رغم ذلك، فإن عودة مشروع الربط القاري إلى الواجهة، يمكن ربطه بالخطوات المتسارعة للموقف الأمريكي في قضية الصحراء الغربية، وإعادة العلاقات مع المغرب، خاصة في ظل الطابع الاقتصادي للخطوة الأمريكية، في محاولة مواجهة النفوذ المتعاظم لكل من روسيا والصين على الساحة الأفريقية.