ثقافة

رضوى عاشور.. و”ثلاثية غرناطة” (3-4)

بمثل ما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، حيث تناول تاريخ مصر السياسي والاجتماعي ما بين ثورتي 19١٩و١٩٥٢، من خلال سيرة أسرة السيد أحمد عبدالجواد، فقد فعلت رضوى عاشور في “ثلاثية غرناطة”، وذلك من خلال مسيرة ووقائع حياة أسرة أبو جعفر الوراق، حيث عاش حياته كلها في البيازين، أحد أهم مدن غرناطة، بمثل ما عاش السيد أحمد عبدالجواد، في أحد أهم أحياء القاهرة التاريخية، حي الحسين وما يجاوره من أحياء.

بيد أن الفرق هنا، بين محفوظ ورضوى عاشور، هو الاختلاف في عدد الأجيال بين الروايتين، فعند أديب نوبل، ضمت ثلاثيته ثلاثة أجيال، الجيل الأول هو جيل الأب، والجيل الثاني هو جيل الأبناء، أما الجيل الثالث، فهو جيل الأحفاد، وكل جيل من هؤلاء عاش في مكان، ابتداءً بـ”بين القصرين” ثم “قصر الشوق” وانتهى بـ”السكرية” حيث عاش الأحفاد، لكن ما ظل باقيا طوال هذه الرحلة مع الزمان والمكان والأحداث، هو رب العائلة، السيد أحمد عبدالجواد، فمع موته أُغلق ملف هذه العائلة وطويت سجلاتها.

لكن عند الدكتورة رضوى عاشور تبدأ الوقائع مع سنة 1491، حين سقطت غرناطة، وأُغلقت أبوابها على من فيها من  العرب، فصاروا أسرى في بلداتهم وقراهم، وغرباء عن مساجدهم، فالقرار بات في أيدي ملوك قشتالة وأراجون، والمساجد تحولت إلى كنائس تُسمع فيها التراتيل المسيحية الكاثوليكية، فلا يُرْفع فيها أذان، ولا يُرتّل فيها قُرْآن، ولا تقام  فيها صلاة!

عائلة أبو جعفر الوراق، تبدأ بالجيل الأول الذي يمثله هذا الرجل الوطني، والذي يظل حاضرا بالذكرى الطيبة لتاريخه الناصع البياض؛ انتماء وسلوكا.. لكننا نبدأ الجيل الثاني، بابنه جعفر الذي لا نعرف عنه شيئا، هل قُتل مع من قاوموا سيطرة القشتاليين على غرناطة؟ أم هاجر إلى الجبل لينضم إلى المجاهدين؟

لا نعرف سوى أنه يمثل رمزا لتاريخ الأندلس الضائعة، فثمة أمراء عرب تناحروا على كسب ود وعون القشتاليين على حساب إخوانهم في الدين والعروبة! هم مرحلة ضائعة، مثل جعفر الذي لا نعرف له تاريخا!

لكن جعفر هذا، والذي يمثل الجيل الثاني من العائلة يترك لنا ولدين، سليمة وحسن.. فيتولى الجد رعايتهما وتربيتهما على ذات القيم النبيلة التي يحملها، الوطنية والاستقامة، ولذلك يجسدون بحياتهما أبناء الجيل الثالث، الحامل لقيم الأجداد.

سليمة الحفيدة الذكية التي أخذت عن جدها حب الكتب إلى حد العشق والبحث العلمي وخصوصا في كل ما يتصل بعلاج المرضى، عندما تبلغ عمر الشباب، تتزوج من سعد الذي رعاه الجد أبو جعفر، في سنوات الصبا، وعلّمه صنعة الوراقين، ولأخلاقه الطيبة وحبه لوطنه، رغم أنه القادم من مَلَقَه، التي سقطت في أيدي الإسبان، وليس من أبناء غرناطة، فقد حقق حلم حياته بزواجه من سليمة الذكية النابهة؛ لتنجب له عائشة.

أما شقيقها حسن حفيد الجد، فقد تزوج من مريمة تلك الفتاة السمراء فائقة الذكاء، والتي لم ترحب بها أمه زوجة له، ولكن سلطان الحب انتصر في النهاية، فأنجبت له هشام، ذلك الفتى الجميل المُتمرد، ولكنه مع عائشة ابنة عمته سليمة؛ يشكلان جيلا جديدا من عائلة أبو جعفر الوراق، وهو الجيل الرابع.

ويأتي عَلِيٌ ثمرة أخيرة لشجرة هذه العائلة العربية، فهو ابن هشام وعائشة، حيث تتولى الجدة مريمة -لوفاة الأم وهجرة الأب إلى الجبل- تربيته ورعايته وتلقينه بذرة الذكاء والقوة والصلابة ولغة القرآن الكريم، وافتداء الوطن، وحب غرناطة، وعدم الخضوع لسطوة القشتاليين وإرهاب ملوكهم.

بهذه الأجيال الخمسة المُتعاقبة، تُحكم رضوى عاشور، كل الجوانب التاريخية لروايتها الرائعة، فمن خلال قص وسرد تاريخ هذه العائلة العربية الأصيلة، تحكي تاريخ غرناطة آخر الممالك العربية التي سقطت من الأندلس الضائعة.

تاريخ من الانقلابات والتقلبات، من الأفراح والأتراح، من النجاح والفشل، من الاستقامة إلى الانحراف، من الوطنية واليأس وفقدان الأمل!

رواية بديعة ورائعة اجتمعت عندها كل عوامل الأبداع رغم “هنّات” بسيطة  عابرة، لا تُنقص من هذه التحفة الفنية أي قدر من الجمال والإبداع.

وعند الوقوف عند بعض أركان هذه العائلة، عائلة أبو جعفر الوراق، تتجسد كل معان الامتياز والجمال والتفوق، في رواية أحسب أنها واحدة من أجمل ما أبدع العقل الأدبي العربي خلال الثلاثين عاما الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock