ثقافة

رضوى عاشور.. و”ثلاثية غرناطة” (4-4)

لكل عمل أركانه، وفي الأعمال الإبداعية، يقوم الإنسان أو الأحداث بتلك المهمة، فثمة روايات تؤرخ لحدث، وثمة أعمال أخرى تتحدث عن قيم، وهناك من الإبداع ما يتناول سيرة فرد من عموم الناس أو قادة وزعماء ومصلحين كبار.

ثلاثية غرناطة، بأجزائها الثلاثة، تجمع بين الحدث التاريخي بسقوط غرناطة، آخر الممالك العربية في الأندلس الضائعة، وبين سيرة الأفراد من عموم الناس، وهي تلك الأجيال المُتعاقبة من عائلة أبو جعفر الوراق، وفي سياق السرد والحكي والقص، نقف عند قيم الوطنية والعروبة والإسلام، قيم تتجسد في سلوكيات هذه العائلة العريقة، وعلاقاتها بمن عرفتهم من جيران وأصدقاء، نساء ورجال وأطفال، في البيازين أو بالنسيه أو ملقة أو غرناطة أو الجعفرية أو عين الدمع، أو غيرها من بلدات.

أبو جعفر الوراق، الذي امتهن صناعة الكتب وتجليدها، يبدو من الفصول الأولى لتلك الرواية البديعة هو سيد هذا العمل بلا جدال، فقد أفصح عن هويته الوطنية العروبية والإسلامية من خلال الحوار الذي جرى في حمّام أبو منصور، الذي لا يقل عنه وطنية وعروبة، فقد جادل الرجل الذي يدعو إلى التسليم بالصُلح الذي أبرمه أبوعبدالله محمد الصغير آخر أمراء غرناطة مع فرناندز وإيزابيلا، ملكي قّشتّالة وأراجون، ذلك الاتفاق المُذل والمُهين.

ولذلك كانت خيبته كبيرة، وحزنه قاتلا إلى حد الموت، عندما شاهد مواكب جنود القشتاليين وأمراءهم تُحكم قبضتها عَلى كل غرناطة، مدنها ومساجدها وقصورها وقراها، حتى بات أهلها أسرى نزواتهم المجرمة وقراراتهم الظالمة.

كانت كلمات النهاية خير تجسيد لتلك المِحنة التي عاشها الرجل!

“قبل أن يأوي أبو جعفر إلى فراشه، في تلك الليلة، قال لزوجته “سأموت الليلة عاريا ووحيدا؛ لأن الله ليس له وجود! ومات”.

كم هي خيبة كبيرة وقهر عظيم،  أوصل الرجل المسلم القوي المؤمن إلى هذا الدرك من القول؟!

ما حدث في ظهيرة هذا اليوم ربما يُفصح عما دار في عقل أبو جعفر وزلزل كيانه… فقد وصل أسقف طليطلة إلى البيازين في ركب الاحتلال القشتالي، وبدأ بحرق الكتب في الميدان الكبير الذي يجاور مسجد الحمراء، الذي بات كنيسة يرتل فيها الكاثوليك أناشيدهم وشماتتهم في عرب الأندلس الغابرين!

يومها خرج حامد الثغري بطل المقاومة، مُكبلا بالأغلال، مُعلنا تنصرهُ في حضرة الأسقف، وتابع الآلاف أوراق الكتب المحروقة، وتساقط المصاحف الكبيرة والصغيرة التي تنفصل عنها أغلفتها الجلدية المُزينة بالزخارف والخطوط، والتي كان كثيرا منها من إبداع أبو جعفر الوراق، ولمسة يديه الساحرة!

كان الرجل يحدق في المشهد، ثم يغُض الطرف، ثم يعود ويُتمتم بكلام غير مفهوم، لا يعي بقبضة حفيدته  سليمة المشدودة على يده ولا أظافرها المغروسة فيها ولا صوتها وهو يعلو مُلحّا مُكررا السؤال: لن يحرقوا الكتب يا جدي، أليس كذلك؟ لا يمكن أن يحرقوا الكتب؟!”.

ولكن أبو جعفر كان يتشبث بقشة الغريق؛ فهل يُعقل أن يتخلّى الله عن عباده؟! وإن تخلّى فهل يمكن أن يترك كتابه يُحرق؟!”

كان أبو جعفر يتطلع إلى السماء ويحدّق وينتظر، حين سمع شهقة الأهالي المُحتشدين، ورأى تصاعد الدخان من أوراق الآلاف من المصاحف والكتب المشتعلة التي تأكلها النيران!

يموت أبو جعفر، قهرا وكمدا وحُزنا، لكن سيرته العطرة، وصنعته الجليلة تترك أثرها في تلك الأجيال التي جاءت من بعده، منهم من كان له ذرية تتالت أسماء أصحابها جيلا بعد جيل، مثل ابنه جعفر الذي ترك له حفيديه سليمة وحسن، وتوجه إلى الجبال لعله يجد فيها ملاذا ومأوى، وحتى عَلِي، حفيده الأخير، ومنهم من كانوا له صبيانا ومريدين، كالصبي نعيم الذي جاء إلى الدنيا فلا نعرف له أبا أو عائلة ولا بيتا، سوى عائلة أبو جعفر؛ فصار بمنزلة الشقيق لحفيديه سليمة وحسن، وكذلك زميله سعد، الهارب من ظلم الكاثوليكيك الذين أجهزوا على روح ملقة، بلدته التي تركها وهرب قاصدا البيازين محتميا بأهلها، قاصدا بيت أبي جعفر ليتعلم صنعته؛ وليتزوج من سليمة، حفيدته الأثيرة الذكية.

تأتي الأجيال تترى بسيرتها بين النجاح والفشل، والأمل والإحباط، ولكل حكايته المُثيرة والعجيبة، حتى نصل إلى عَلِيٍّ، آخر ذرية أبي جعفر الوراق، فقد ماتت جدته مريمة على يديه، ليدفن جُثمانها الذي عاند الرحيل مع المُرحّلين من العرب المسلمين إلى المغرب وتونس ومصر والشام، فيواري جسدها ثرى غرناطة الحزين.

يترك عَلِيٌّ غرناطة بحثا عن عمته المُقيمة في بالنسيه، فيقال له أنها غادرت إلى قرية الجعفرية؛ فيذهب إليها، ويلتقي بسيدي عمر الشاطبي، إمام هذه القرية وشيخها وكبيرها وفقيهها وزعيمها الذي ينصحه بالإقامة في هذه القرية، ويخبره أن عمته رحلت إلى فاس في المغرب هي وزوجها الذي ينتسب إلى بيت  الطاهر، فيسمع نصيحة سيدي عمر الشاطبي، ويجد في كلماته خلاصة الحياة، وحكمة الشيوخ، فيبقى في القرية ليعمل مزارعا ومُدرسا؛ يُعلّم أطفالها العربية لغة القرآن، ويزيدهم من علمه بآيات كتاب الله، وتفسيره لها، فلم تصل يد القشتاليين بعد، إلى عقول رجال ونساء وأطفال هذه القرية؛ لتمسح عقولهم وتمحو دينهم، وتطبع طباعهم بديانتهم الكاثوليكية القاهرة!

لكن لجان التحقيق وحملات التفتيش تهبط بظلامها وظلمها إلى القرية الوادعة الجعفرية العربية المُسلمة، للبحث عن المخالفات مثل البحث عن الكتب العربية، أو قراءة القرآن الكريم، أو التحري عمن يصوم رمضان ويقيم الصلاة أو حتى من يأكل الطعام العربي، أو من يطعم أولاده بالذبيحة الحلال!

وبعد أيام من وصول هذا الطاعون إلى الجعفرية؛ لم يمهل القدر أهلها من تنفس الصُعداء، فقد هبط عليهم الدوق الإقطاعي الكبير، والذي يملك القرية بما عليها من بشر وزرع وبساتين وغلال وماشية وكل ما فيها من حياة، ليجردهم مما يملكون رغم فقرهم وشح المحصول، فيتذمرون من هذا الطغيان، فيغزوا القرية بمائة فارس ليدمر الحياة فيها، ويقضي على أي ذرة من أمل، تبدو في بيوتها وبين أهاليها!

بيد أن القدر يضرب ضربته المؤلمة، فيموت السيد عمر الشاطبي؛ فتفقد قرية الجعفرية البركة والأمان وروح المقاومة، وتقع فريسة للناهبين من القشتاليين الكاثوليك، لكن قبل أيام من رحيل الشيخ أطلع عَلِيٌّ، الذي صار اسمه عَلِيّ الغرناطي، على حكايته فيعرف أنه من عائلة الفقهاء لا القُضاة، وأن الله أعانهم عَلى الحفاظ على عروبة وإسلام العاصمة  بالنسيه، خلافا لِمَ حدث في أراجون وغيرها، حيث أفسد شباب العرب وأجهضت أرواحهم!

لكن المصير المحتوم، والقدر الذي لا مفر منه، حطّ بأثقاله على من تبقى من أهل الأندلس من العرب، فباتت غرناطة وأهلها من المُرحّلين والمطرودين، فيذهب عَلِيٌّ، مع الراحلين من أهل الجعفرية إلى الشاطئ البعيد، حيث تنتظر السفن لتنقلهم إلى الشاطئ الآخر، إلى أرض العرب، المغرب وتونس والجزائر!

يجتمعون على الشاطئ، يتحدثون ويثرثرون ويبكون ويتشاحنون، لكنهم أجمعوا على الرحيل مُجبرين ومقهورين!

عَلِيٌّ وحده يحلم بجدته مريمة وهي تحكي له قصة إسراء الرسول إلى القدس ومعراجه إلى السماء.

فيعطي للبحر ظهره ثم يعود إلى مريمة المتشبثة بثرى غرناطة، ليتوغل في الأرض، ويمشي في هدوء وثبات، يتمتم: “لا وّحشة ولا غُربة في قبر مريمة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock