صدر مؤخرا كتاب جديد هام لأستاذ العلوم السياسية الأمريكي الجنسية، اللبناني الأصل البروفسير فواز جرجس، بعنوان: “ما الخطأ الذي حدث بالفعل؟: الغرب وفشل الديمقراطية في الشرق الأوسط”، وقد ركّز المؤلف في كتابه بشكل خاص على دراستي حالة؛ لتناول موضوع كتابه وهما إيران في عهد رئيس الوزراء الراحل الدكتور محمد مصدق، ومصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، علما بأنه ركّز في إطار الغرب على الدور الأمريكي بشكل خاص، وإن تضمن الكتاب إشارات عديدة إلى دور بلدان غربية أخرى أو إلى تنسيق الولايات المتحدة الأمريكية مع دول غربية أخرى.
وسوف نُركِّز في هذا المقال على الحالة المصرية، حيث نجد أن ثورة الجيش التي قادها تنظيم الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، قد أنهت نظاما سياسيا كان من الناحية الرسمية يمثل نظاما تعدديا على نسق الديمقراطية الليبرالية الغربية، وإن كان مجلس قيادة الثورة قد بدأ بدعوة الأحزاب القائمة إلى تطهير نفسها، فإن الثورة بعد شهور قليلة يئست من أن تتطهر الأحزاب بنفسها من الداخل، ومن ثم أعلنت حظر الأحزاب السياسية، وهو حظر استمر رسميا حتى إعلان الرئيس المصري الراحل أنور السادات عن عودة الأحزاب السياسية بشكل شرعي، وإن كان قيده بثلاثة أحزاب فقط، في نوفمبر 1976، وما بين التاريخين ساد نظام أسمته الدولة نظام “التنظيم السياسي الشعبي الوحيد”، واعتبره غالبية علماء السياسة، ضمن نظام الحزب السياسي الواحد أو الأوحد، بدأ الأمر بـ”هيئة التحرير”، ثم تلاه “الاتحاد القومي” وانتهى بـ”الاتحاد الاشتراكي”.
ومن الصحيح أن الغرب، سواء قوة الاحتلال السابقة في مصر بريطانيا أو القائد الجديد للتحالف الغربي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية الولايات المتحدة الأمريكية، كانتا تعلمان جيدا أن النظام المفترض أنه كان ديمقراطيا ليبراليا والذي كان قائما قبل 23 يوليو 1952، كان بعيدا بدرجة كبيرة من كونه نموذجا لنظام ديمقراطي صحيح أو صحي أو كامل، وكان يعتريه الكثير من أوجه العوار والخلل، التي شلت في أحيان كثيرة من فعاليته، للعديد من الأسباب. فحزب الوفد المصري، الذي كان من المفترض أنه حزب الأغلبية الشعبية قبل يوليو 1952، لم يشكل الحكومة إلا لما يزيد بقليل عن سبع سنوات فقط طوال ما يقرب من ثلاثين عاما امتدت منذ أول انتخابات نيابية في ظل دستور 1923، الذي صدر عقب إعلان استقلال مصر المنقوص وأحادي الجانب من جانب بريطانيا، طبقا لتصريح 28 فبراير 1922، وحتى إلغاء الأحزاب السياسية في مصر وحظرها في يناير 1953.
وجاء ذلك في مرات عديدة بسبب تدخل الحكومات القائمة أو جهة الإدارة، وأحيانا بتعليمات من الملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق، لتزوير إرادة الأمة ممثلة في التلاعب بنتائج الانتخابات النيابية، أو من خلال إعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية أو غير ذلك من تدخلات إدارية لتغيير نتائج الانتخابات.
وإذا عدنا إلى الجذور، نجد أنه عند صياغة دستور 1923، الذي كان من المفترض أن يكون دستورا على النسق الديمقراطي الليبرالي الغربي، حدثت تدخلات من الملك فؤاد وأنصاره من الأحزاب والسياسيين للسعي لإدخال تعديلات على مشروع الدستور لمنح مساحات واسعة له تسمح له بالتدخل في العملية السياسية لاحقا. إلا أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل ألغى الملك دستور1923، ومرر دستور بديل، أقل بكثير في مكوناته الديمقراطية والليبرالية عام 1930.
كذلك فإنه على مدار الفترة ما بين 1923 و1952، خرق الملك فؤاد ومن بعده فاروق، التقاليد الديمقراطية في عدة مناسبات حينما كلفوا زعماء أحزاب أقلية -بعضها نشأ أصلاً بإيعاز وتشجيع من القصر الملكي- بتشكيل العديد من الحكومات، خلافا لإرادة غالبية الشعب المصري.
ولكن الدور الآخر الذي لم يقل خطورة عن دور القصر الملكي في إفساد النظام السياسي الليبرالي الديمقراطي الذي كان قائما قبل يوليو 1952- كان دور سلطة الاحتلال البريطاني ذاتها، والتي سعت إلى إحباط أو عرقلة أو على أقل تقدير تعطيل وإبطاء ذلك النظام السياسي والحيلولة دون أن يكون فعالا أو مؤثرا، من منطلق الوعي بأن حسن سير ذلك النظام سيعود فقط بالضرر على الوجود والنفوذ البريطاني في مصر، نظرا لأن حزب الوفد المصري، وهو حزب الأغلبية في مصر في ذلك الوقت، كان يربط – في الأغلب الأعم من الأحوال- بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية.
ويجب -بالمقابل- أن نقر هنا بأنه في حالات معينة مارست بريطانيا ضغوطا، سواء على القصر الملكي أو على الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب الوفد، لضمان تشكيل حكومات تمثل غالبية الشعب المصري، سواء حكومات مُشكّلة فقط من حزب الوفد أو من ائتلاف أحزاب عديدة يقودها الوفد. وقد حدث ذلك بشكل خاص مرتين.
أما المرة الأولى فكانت عام 1935، عندما كانت بريطانيا في حاجة للتوقيع على معاهدة مصر لتنظيم علاقاتها معها عندما بدا في الأفق أن الحرب العالمية الثانية قد قاربت على الاندلاع، وبالتالي ضغطت على الأحزاب لتشكيل حكومة وحدة وطنية بزعامة حزب الوفد، للتفاوض مع بريطانيا حول تلك المعاهدة، وذللك في نفس الوقت التي كانت تدفع فيه الحركة الوطنية المصرية، خاصة الحركة الطلابية في الجامعات المصرية، في اتجاه تشكيل حكومة وحدة وطنية أيضا للحفاظ على المصالح المصرية، وتحسين وضع مصر المنصوص عليه في تصريح 28 فبراير 1922، قبل الالتزام بدعم بريطانيا في الحرب العالمية القادمة. وبناء على ذلك جاءت معاهدة 1936، التي مثلت خطوة أكثر تقدما على طريق تحقيق المطالب المصرية في الاستقلال السياسي، إذا ما قورنت نصوص المعاهدة بما تضمنه تصريح 28 فبراير 1922.
وأما المرة الثانية، فجاءت في فبراير 1942 عندما اقترب الجيش الألماني من مدينة الاسكندرية خلال الحرب العالمية الثانية، وتخوفت بريطانيا مما كانت تعتقد في ذلك الوقت أنه ميول موالية للفاشية لدي الملك فاروق وبعض المستشارين المحيطين به آنذاك في القصر الملكي، خاصة من المستشارين الإيطاليين المقربين منه، كما أرادت بريطانيا وجود حكومة قوية في مصر تمثل الأغلبية وفي الوقت ذاته تكون واضحة في انحيازها السياسي للحلفاء في الحرب بسبب التشابه الأيديولوجي، ففرضت بريطانيا على الملك تكليف النحاس باشا زعيم حزب الوفد المصري بتشكيل الحكومة، وهو الحزب صاحب التوجهات الليبرالية الواضحة منذ تأسيسه.
وقد كانت تجربة البلدان الغربية، خاصة دولة الاحتلال بريطانيا، أو الزعيم الجديد للمعسكر الغربي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأمريكية، جديدة في التعامل مع النظام السياسي الثوري الجديد في مصر عقب ثورة 23 يوليو 1952، الذي كان لتوه، كما ذكرنا فيما سبق، ألغى نظاما سياسيا قائما، من الناحية النظرية على الأقل بالرغم من كل عيوبه، على أسس النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي.
وبخلاف الحال في إدارة العلاقات مع مصر في أعقاب تطبيع علاقاتها مع غالبية البلدان الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، في عقد السبعينيات من القرن العشرين، فإن الكتاب الذي بين أيدينا يوثق لحقيقة أن المسألة الديمقراطية لم تكن مثارة على الإطلاق، أو على أقصى تقدير كانت محدودة الإثارة وفي مرات قليلة، في تعامل الغرب، خاصة واشنطن، مع النظام السياسي المصري الذي نشأ في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952، وبالذات إذا ما قارنا ذلك بمحاولات الضغوط الغربية والأمريكية على القيادة الناصرية لتقديم تنازلات في مجالات أخرى مثل التراجع عن التعاون مع الاتحاد السوفيتي السابق وبلدان الكتلة الشرقية، سواء على الصعيد العسكري أو على الصعيد المدني (التجارة، الاقتصاد، الطاقة، الري، الكهرباء، البحث العلمي والتطوير التكنولوجي) من جهة أو على صعيد الضغط من أجل ما يتصل باعتبارات وتوازنات الحرب الباردة من السعي لانضمام مصر للمبادرات المتعلقة بإنشاء أحلاف غربية عديدة والتي طرحت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بما يحقق تأمين إمدادات موارد النفط الضرورية للغرب من البلدان العربية وغير العربية (إيران) الثرية في احتياطيات النفط في المنطقة وضمان الأمن والاستقرار للحكومات القائمة في المنطقة وحماية مجمل المصالح الغربية، خاصة الأمريكية، في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، من جهة ثانية، أو فيما يتعلق بالدفع لقبول مصر آنذاك بتسويات سياسية مع إسرائيل على أسس سلمية وبما يضمن في الأساس أمن وتفوق استراتيجي للطرف الإسرائيلي.. وكذلك منح الغطاء لقيام دول عربية أخرى بتسويات مماثلة مع الجانب الإسرائيلي دون تحريض للجماهير العربية ضدها من جانب القيادة الناصرية وأنصارها على امتداد الأرض العربية والأدوات الإعلامية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية التابعة لها، من جهة ثالثة.
ويدفع المؤلف البروفيسير فواز جرجس في كتابه بأنه بدلا من أن يستخدم الغرب، خاصة واشنطن، سياسة تقديم حوافز للسلطة الناصرية في مجال التعاون الاقتصادي أو العسكري معها مقابل حثها على القيام بإصلاحات سياسية تؤدي إلى إقامة نظام ديمقراطي سليم، وهو أصلا الهدف السادس من الأهداف المعلنة لثورة 23 يوليو 1952، أي سياسة التلويح بـ “الجزرة”، فإنها لجأت إلى أساليب وأدوات أخرى في إدارة علاقاتها مع مصر الناصرية أدت إلى المزيد من الاستعداء للرئيس الراحل جمال عبد الناصر تجاه الغرب ودفعه للمزيد من الاقتراب من الكتلة السوفيتية بما جعل المسافات تتباعد وبالتالي المواقف والسياسات والتوجهات تتباين لتصل الأمور في مراحل تاريخية ما خلال تلك الحقبة إلى العداء المعلن والاقتراب من القطيعة الكاملة.
وفي هذا السياق، علينا أن نتذكر أن الغرب لجأ إلى اتباع عدد من الاستراتيجيات التي تضمنت دعم الدول والقوى المعادية للقيادة الناصرية، خاصة خلال ما يعرف تاريخياً بزمن “الحرب الباردة العربية”، ما بين عامي 1956 و1967، كما أطلق عليها عالم السياسة الأمريكي الشهير الراحل بروفسير مالكولم كير، عندما احتدم الصراع ووصل إلى درجات الصدام المباشر في عدة حالات بين ما كان يسمى بالدول الراديكالية العربية وفي مقدمتها مصر الناصرية وسوريا والعراق تحت قيادة إما حزب البعث أو قوى قومية عربية والجزائر بعد استقلالها عن فرنسا في عام 1962، واليمن بعد اندلاع ثورة الجيش بها في عام 1962، في مواجهة البلدان العربية المحافظة أو المعتدلة والتي ضمت المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية وتونس والمغرب ولبنان أحيانا والسودان أحيانا، فقد وقف الغرب عموما، والولايات المتحدة وبريطانيا خصوصا، دائما في معسكر الداعمين للخندق المناهض للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، بما في ذلك السعي لاستنزاف القدرات العسكرية والاقتصادية المصرية في الحرب في اليمن التي أعقبت التدخل العسكري المصري في اليمن عقب طلب ذلك من الحكومة التي انشأتها ثورة الجيش هناك في سبتمبر 1962، ودعم تلك القوى الغربية للطرف الملكي في الحرب الأهلية هناك المدعوم آنذاك من قبل المملكة العربية السعودية. بل إن البعض ذهب إلى حد القول بأن الغرب أفسد في تلك الحقبة محاولات كانت تبذل من طرف بلدان وقوى عربية للتصالح بين المعسكرين العربيين المتصارعين، خاصة بين مصر والمملكة العربية السعودية، وأن الغرب لعب دورا في الوقيعة بينهما في المقام الأول عقب صد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956.
وعلى الصعيد الاقتصادي، كانت هناك المحاولات الشهيرة للغرب، خاصة الولايات المتحدة الامريكية، لمحاربة مشروع إقامة السد العالي في أسوان من خلال خنق أي محاولات تمويل له، ليس فقط على صعيد تقديم المساعدات (منح أو قروض) من جانب الدول الغربية، بل حتى الحيلولة دون حصول المشروع على أي دعم من مؤسسات التمويل الدولية آنذاك وفي مقدمتها البنك الدولي، وهو الأمر الذي عزز لجوء القيادة الناصرية للاتحاد السوفيتي السابق على الصعيدين المادي والتقني للمساعدة في بنائه، كما كانت هناك محاولات غربية، خاصة أمريكية، دءوبة ومستمرة لتقليص فرص حصول مصر على تكنولوجيا متقدمة، ليس فقط في المجال الحربي، بل في المجالات المدنية المتنوعة، والسعي لاحتواء أي تقدم تحققه مصر في هذا السياق من خلال وضع حدود له أو قيود عليه أو حتى حث أطراف خارجية من العالم الغربي، سواء حكومات أو مؤسسات خاصة، على عدم التعاون مع مصر في عدد من هذه المجالات.
وما تقدم يؤكد الأهمية البالغة لكتاب البروفسير فواز جرجس حول الغرب وفشل الديمقراطية في الشرق الأوسط، والذي يمس مسألة تبقى لها دلالات مستمرة، ليس فقط في علاقة الغرب بكل من مصر وإيران، ولكن أيضاً في مجمل علاقة الغرب ببلدان الشرق الأوسط، وكذلك تبرز أهمية توقيت صدور الكتاب في وقت تتعرض فيه الديمقراطيات الليبرالية الغربية التقليدية، سواء في أوروبا أو في أمريكا الشمالية، للعديد من الاختبارات وللتحديات الجادة. ويبقى الكتاب ضرورياً للقراءة من قبل المثقفين المصريين على وجه الخصوص.