رؤى

دوافع التقارب الإثيوبي.. مع قيادة الجيش السوداني

تؤكد زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، إلى مدينة بورتسودان، في 9 يوليو الجاري، والتي أجرى خلالها محادثات “مُغلقة” مع رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني عبد الفتاح البرهان- على أهمية ملف الصراع في السودان بالنسبة إلى الجانب الإثيوبي، خاصة أن زيارة آبي أحمد هي الزيارة الأولى له إلى السودان، منذ اندلاع المواجهات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع، في منتصف أبريل من العام الماضي، 2023.

بل لا تُعبر الزيارة عن أهمية الملف السوداني لإثيوبيا فقط، ولكن تُعبر عن تحوّل كبير في الموقف الإثيوبي، مما يجري طوال خمسة عشر شهرا من الحرب في السودان؛ بما يعنيه استمرار هذه الحرب على تشابك المصالح في أبعادها الأمنية والجغرافية والاقتصادية، والسياسية أيضا، بين إثيوبيا والسودان. إذ يكفي أن نُلاحظ أن بعض الملفات الخلافية ما زالت مفتوحة بينهما، مثل سد النهضة وإشكاليات الحدود.

ومن الواضح، أن اندلاع الصراع العسكري، واتخاذ آبي أحمد موقفا بدا مؤيدا لقوات الدعم السريع، فضلا عن قيادة تحركات إقليمية لمُحاصرة الحكومة السودانية، واعتبارها غير مؤهلة للحكم، ومطالبته بحظر طيران الجيش السوداني؛ كلها عوامل وضعت آبي أحمد في دائرة الخصوم بالنسبة إلى الجيش السوداني. ومن ثم.. فإن الزيارة قد تكون بهدف تقليل الخسائر، وتحقيق بعض المكاسب في وقت استطاع فيه الجيش السوداني استعادة توازنه في الصراع العسكري الدائر في البلاد.

وكما يبدو، فإن زيارة آبي أحمد تستهدف الدخول على خط الأزمة السودانية، لأجل التحكم في امتدادات الصراع إلى خارج الحدود السودانية، على الأقل في ما يخص منطقة القرن الأفريقي؛ أيضا لتدخل إثيوبيا وسيطا بين طرفي الصراع من أجل وقف الحرب. ولعل ما يؤشر إلى ذلك، هو الاتصال الذي تلقاه الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، من قائد الجيش السوداني، الخميس 18 يوليو الجاري؛ بما يؤشر إلى احتمال قيام وساطة إثيوبية إماراتية بخصوص الصراع في السودان؛ بما له من تأثيرات على الجوار الإقليمي للبلاد.

فمن اللافت، أن السودان بموقعه الجيوسياسي المتميز، يرتبط بجوار إقليمي مُعقد؛ يجمعه بإثيوبيا وإريتريا شرقا، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة القرن الأفريقي، هذا بجانب جواره الغربي مع كل من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وهو الجوار الذي يُعزز من مكانة السودان بوصفه مؤثرا مهما في إقليم الساحل الأفريقي. هذا فضلا عن جواره الشمالي حيث الدولة المركزية مصر، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأبعادها الإقليمية والدولية؛ ثم جواره الجنوبي المتمثل في جنوب السودان، الذي يربط السودان بتفاعلات منطقتي شرق أفريقيا والبحيرات العظمى.

أضف إلى ذلك أن السودان يتأثر بنمط عدم الاستقرار الإقليمي، وكافة ارتدادات عدم الاستقرار هذا على الداخل السوداني؛ فهناك قضايا اللجوء والتأثير في الاقتصاد والتجارة والأمن الغذائي والإنفاق العسكري.. وغيرها، مما ينعكس بشكل سلبي على تنمية البلاد المتعثرة أصلا. هذا ناهيك عن قضايا النزوح واللجوء إلى دول الجوار، الناتجة عن الصراع العسكري المستمر.

في هذا الإطار، يمكن توقّع أن تُفرز الأزمة السودانية “واقع جديد” تزداد فيه النزاعات والصراعات الإثنية؛ بل إن بعض الإثنيات في دول الجوار الجغرافي للسودان، سوف يستفيد من هذا الوضع، خاصة تلك الإثنيات ذات التداخلات العرقية في مناطق التماس الحدودية مع السودان؛ وهو ما يمكن أن يُشكل تهديدا كبيرا لاستقرار دول الجوار. فالقبائل ذات الأصول الأفريقية، في غرب السودان، وخصوصا في المناطق الملتهبة مثل دارفور، تجد فرصتها في الالتحام بقبائل المنطقة، مستفيدة في ذلك من الهشاشة الأمنية المتزايدة؛ وكذلك ستفعل القبائل في شرق السودان، خاصة تلك المتداخلة مع القبائل الإثيوبية، ما يجعل مناطق النزاعات والصراعات المتجددة، في منطقة الفشقة وغيرها، بيئة خصبة لتوالد مجتمع بإمكانه فرض واقع جديد على السودان.

مثل هذا التأثير، يعتمد على مجموعة من العوامل، من أهمها: مدى استمرارية الأزمة السودانية بوضعها الحالي، نتيجة استمرار الصراع المسلح؛ ومدى تأثير حجم الحدود الطويلة، الممتدة على طول غرب السودان وشرقه. أضف إلى ذلك، نتيجة الصراع المسلح الحالي، سواء بانتهائه أم باستمرار تداعياته، وتوسع رقعته التي ربما تمتد إلى إقليم دارفور غربا وإثيوبيا شرقا ودولة جنوب السودان جنوبا؛ هذا ناهيك عن إمكانية دخول الحركات المسلحة السودانية، على خط الصراع المسلح الحالي، وانحيازها إلى أحد طرفي الصراع.

ومن هنا، تتبدى تداعيات الأزمة السودانية، خاصة في شقها الأمني، على مدى قدرة الجيش السوداني على حسم الفوضى، التي يُمكن أن تنشأ على الحدود، خاصة في المناطق الملتهبة غربا وشرقا. هذا، فضلا عما يتعلق بوضعية الحركة بين الحدود، وحالات اللجوء إلى خارج السودان، وبروز تعقيدات أخرى نتيجة هذه الحركة، مثل: التعديات على الأراضي، وانتشار الجرائم، والإرهاب، وتهريب البشر، وتجارة المخدرات والأسلحة.

وبناءً على عوامل الخطورة هذه، فإن كارثية الأزمة السودانية تكمن في تركيبتها وأسبابها، بل وفي الثغرات التي تتمدد من خلالها؛ خاصة إذا لاحظنا أن النقطة الجوهرية، هنا، في هذه الأزمة، أن تداعياتها يمكن أن تمتد شرارتها وتفاعلاتها إلى دول الجوار الإقليمي؛ وفي الوقت نفسه، يمكن لهذه التفاعلات أن ترتد إلى السودان مرة أخرى؛ بما تؤدي إليه من استجابات سياسية، قد تكون لها آثار طويلة الأمد.

إلا أن الملاحظة الواجب تثبيتها هنا، أن هذه التداعيات ليس بالضرورة أن تتمثل في نشوب صراع مُسلح في دول الجوار السوداني؛ وإنما تتجلى في العبء الاقتصادي، الذي يتحمله الإقليم بأكمله نتيجة اللجوء عبر الحدود المشتركة، بين السودان ودول جواره الإقليمي، وهو ما يتبدى بوضوح حاليا. هذا فضلا عن الأنشطة “غير القانونية” الأخرى، التي بدأت بوادرها في الظهور مؤخرا.

ملاحظة أخرى، في ذات السياق، تتمحور حول المفارقة اللافتة في الأزمة السودانية؛ إذ رغم أن هذه الأزمة هي الأعقد والأكثر حدة، منذ سقوط الرئيس السوداني السابق عمر البشير، في أبريل 2019، إلا أنها شهدت أدنى مستويات التدخل من جانب القوى الإقليمية، من دول الجوار السوداني؛ بما يُشير إلى أن ذلك لا يعكس عزوفا من جانب تلك القوى، بقدر ما يؤكد مستوى الخطورة المرتفع للأزمة الحالية. وبكلمة، فإن مستوى الخطورة للأزمة السودانية، يحمل فرصا حقيقية لإمكانية إدخال السودان في حالة من الاحتراب الداخلي الشامل؛ بل، وإمكانية تحول الأزمة إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock