رؤى

الرسم القرءاني.. ودلالة مصطلحي “تَسۡـَٔلۡنِ” و”تَسۡـَٔلۡنِي”

ما أهمية “الرسم القرءاني” وعلاقته بالدلالات التي تحملها آيات التنزيل الحكيم؟ هذا هو التساؤل الذي أنهينا به مُفتتح الحديث حول “الرسم القرءاني”، وعدم صحة مقولة “عثمانية” هذا الرسم، من حيث إن القرءان “كتاب مُنَزَّل” من عند الله سبحانه وتعالى، والرسم القرءاني توقيفي ترتيلي، من عنده عزَّ وجل، وليس عثمانيًا؛ بل وليس بالأصل سنيًا نبويًا، ولا إرشاديًا إماميًا؛ وإنما هو قرءاني توقيفي ترتيلي.

يعني هذا أن كتابة القرءان بالرسم المعروف، الذي نُطالعه في المصحف الشريف، هو من عند الله سبحانه وتعالى، وهو مُنَزَّل بهذه الصورة وبهذا الرسم؛ لأن القرءان هو كتاب، والكتاب لا يكون إلا مكتوبا. إذ القرءان ليس فقط كلام الله، ووحيه إلى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بل هو كتاب الله عزَّ وجل. وبالتالي من ذهب إلى أن “الرسم القرءاني” ليس توقيفيًا، فهو مُخطئ بلا ريب.

ولا يحتجن أحدٌ على أحدٍ بمسألة التاريخ، والروايات التي يذكرها لنا هذا التاريخ؛ إذ لنا أن نحتكم جميعًا إلى القرءان الكريم ذاته، لإثبات مدى صحة أية مقولة نُرددها، ونعتقد في صحتها.

نؤكد أن هناك ضرورة في محاولة الكشف عن دلالات الألفاظ والمصطلحات القرءانية؛ بل ومحاولة القيام بذلك عبر تدبر الآيات القرءانية من خلال لسانها (اللسان القرءاني) وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها.

بناءً على ذلك، لنا أن نشير إلى ضرورة بيان “المصطلح القرءاني” -من حيث الدلالة- إذ لما كان المصطلح -أي مصطلح- هو “أداة العقل المُجَرَدَة في الإشارة إلى المعنى”، بالشكل الذي يُعتبر فيه مثل الآلة تماما، لها مُجَرَد واحد هو اسمها المأخوذ من، -والدال في الوقت نفسه على- عملها وإنتاجها؛ ومن ثم، يتوجب تعريفه، أو استكشاف هذا التعريف؛ لذا يمكن القول بأن المصطلح يأخذ أحد جانبين اثنين، أو كليهما معا: الجانب “المادي العضوي”، والجانب “المعنوي الوظيفي”، حيث لكل منهما التصور الخاص به في “الذهن الإنساني”.

وهنا، لنا أن نؤكد على ما نُطلق عليه “المؤشر الدلالي” للمفهوم، والذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.

في الحديث السابق حول “الرسم القرءاني.. ودلالة الياء في التنزيل الحكيم”، وصلنا إلى أن حرف “الياء” بوصفه مؤشرا دلاليا من حيث اختلاف الرسم القرءاني له، يأتي ليتنوع بين زيادة الحرف في بعض المصطلحات القرءانية، بما لذلك من دلالة، وبين ثبوت الياء وحذفها من بعض آخر من المصطلحات، بما لذلك من دلالة أُخرى تختلف عن الأولى.

وكان المثال الذي حاولنا الاستشهاد به هناك، هو “وَرَآيِٕ”، الذي يختلف رسمًا قرءانيًا عن المصطلح “وَرَآءِ”؛ بما يؤكد الاختلاف الدلالي بين المصطلحين، نعني الاختلاف الدلالي الذي كنا قد أوضحناه من قبل، بين “وَرَآءِ حِجَابٖۚ” [الأحزاب: 53]، وبين “وَرَآيِٕ حِجَابٍ” [الشورى: 51].

إلا أن ذلك المثال ليس هو المثال الوحيد، الذي يُمكن الاستشهاد به ضمن آيات الذكر الحكيم؛ فهناك أمثلة مُتعددة على الاختلاف الدلالي للمصطلح القرءاني، بين ورود حرف الياء في المصطلح، وبين عدم وروده فيه؛ بما يُعبر عنه من اختلاف بين الدلالة المادية العضوية، وبين الدلالة الوظيفية.

هذا الاختلاف الدلالي نفسه، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت الحرف وبين عدم تثبيته، يتضح أيضا في الاختلاف بين “تَسۡـَٔلۡنِ”، في قوله سبحانه: “قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [هود: 46].. وبين “تَسۡـَٔلۡنِي”، في قوله تعالى: “قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا” [الكهف: 70].

هنا لنا أن نُلاحظ كيف أن “تَسۡـَٔلۡنِ” وردت في الآية الأولى [هود: 46]، دون تثبيت حرف الياء، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي الذي يحمله المصطلح القرءاني “تَسۡـَٔلۡنِ”؛ بدليل السياق القرءاني الوارد في الآية الكريمة، الدال على الجوانب المادية العضوية “لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ… عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”. وبالتالي، يأتي التعبير القرءاني “فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ” للدلالة على الجانب المادي العضوي في “التساؤل” الذي توجه به نبي الله نوح عليه السلام إلى المولى عزَّ وجل، بخصوص “ابنه” الذي عبَّر عنه القرءان الكريم بأنه “عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”.

وهنا لنا أن نؤكد على اختلافنا مع ما ذكره المراكشي، في كتابه “عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل”؛ إذ إنه يرى أن “مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ”، هو سؤال عن غيب ملكوتي، بما يُلمح إلى مسألة معنوية؛ وإن كان المراكشي لم يَقُل ذلك. ورغم أن ذلك صحيح، نعني أن نبي الله نوح لم يكن يعلم بـ”كنه” ابنه، وبأنه “عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”؛ إلا أن “فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ” وردت بهذا الشكل، رسمًا قرءانيًا دون تثبيت حرف الياء، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي الذي يحمله المصطلح القرءاني “تَسۡـَٔلۡنِ”.

أما في الآية الكريمة الثانية [الكهف: 70] لنا أن نتأمل كيف وردت “تَسۡـَٔلۡنِي” مع تثبيت حرف الياء، مؤشرا دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “تَسۡـَٔلۡنِي”؛ بدليل السياق القرءاني الوارد في الآية الكريمة، الدال على الجوانب المعنوية الوظيفية، خاصة مصطلح “ذِكۡرٗا” في ختام الآية “حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا”. ومن ثم، يأتي التعبير القرءاني “فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ” للدلالة على الجانب المعنوي للتساؤل “عَن شَيۡءٍ”.

ومن الواضح هنا، أن التساؤلات التي وردت على لسان نبي الله موسى عليه السلام، في ما بعد الشرط الذي وضعه العبد الصالح، هي تساؤلات عن معاني وأسباب “حوادث بشرية” قام بها العبد الصالح، ولا يعرف موسى دلالة هذه الأفعال. ومن ثم، جاء التعبير القرءاني “فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ”، على لسان العبد الصالح، ليُعبر عن الجانب المعنوي، والوظيفي، للتساؤلات التي وردت على لسان موسى عليه السلام.

الملاحظ، في هذا الإطار الدلالي، أن حرف الياء يأتي رسمًا قرءانيًا، في حال التثبيت أو عدمه، ليختلف مع حرف الألف؛ وبالتحديد يأتي حرف الياء على العكس من حرف الألف.

إذ، إن تثبيت حرف “الألف” في المصطلح “طَغَا”، مثالا كنا قد أوردناه من قبل، يُضيف بُعد الارتفاع والعلو بالنسبة إلى تجاوز الماء الحد المادي العضوي؛ كما في قوله سبحانه: “إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ” [الحاقة: 11]. أما في حال عدم تثبيت حرف “الألف”، واقتصر الرسم القرءاني على “الألف المقصورة” أو “اللينة”، في المصطلح “طَغَىٰ”، فهي تُضيف بُعد السقوط لحال من “طَغَىٰ”، حيث الجانب المعنوي الوظيفي لـ”الطغيان” المنهي عنه بفحوى الخطاب القرءاني؛ كما في قوله تعالى: “ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ” [طه: 24]، وفي قوله عزَّ من قائل: “مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ” [النجم: 17].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock