رؤى

مصطلح النفس.. وثلاثية “الخلق والجعل والإنشاء”

استكمالًا لما كنا قد تناولناه قبل فترة، على صفحات “أصوت أونلاين”، في بحث صغير حول إشكالية “النفس – الروح”؛ سوف نبدأ، هنا، بمحاولة التعرف على دلالة مصطلح “ٱلنَّفۡسَ”، وذلك من منظور العلاقة بينها، وبين ثلاثية “الخلق والجعل والإنشاء”.

عن “ٱلنَّفۡسَ”، يقول سبحانه: “وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ” [البقرة: 48]؛ ويقول تعالى: “وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ” [البقرة: 123]؛ ويقول عزَّ وجل: “فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ” [آل عمران: 25].

وهنا، وكمدخل لهذا الحديث، لنا أن نتساءل: هل النفس خاصة بالإنسان؟ بمعنى هل لباقي المخلوقات، من غير الإنسان نفس؟

المُلاحظ في التنزيل الحكيم، أن الله تبارك وتعالى لا يجعل نفسا إلا للإنسان؛ أما باقي المخلوقات، فلم يأتِ في القرءان الكريم أن لها نفسا. لذلك قال سبحانه في قتل الإنسان: “وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ” [الأنعام: 151]. ولم يجعل سبحانه للصيد نفسا؛ فيقول عزَّ من قائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُم وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآء مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ” [المائدة: 95].

في كتاب الله الكريم، وصل عدد مرات ورود لفظ “نفسٖ” إلى 61 مرة، في حين وصل عدد مرات ورود اللفظ ومشتقاته معا، إلى 295 مرة، ما يؤشر إلى مدى الاتساع في دائرة الدلالة التي يستند إليها المصطلح في آيات الذكر الحكيم. ولم يرد لفظ “بدن” إلا مرة واحدة، وورد لفظ “جسد” أربع مرات، في حين لم يرد لفظ “جسم” إلا مرتين فقط. أما لفظ “الروح” ومشتقاته فقد ورد إحدى وعشرين مرة، ما يؤشر إلى التكثيف الدلالي لمصطلح الروح في القرءان الكريم.

هنا تتداعى التساؤلات حول ثلاثية “النفس، الروح، الجسم”، تلك التي تنطلق من التساؤل حول الجسم، ولماذا الجسم تحديدا وليس البدن أو الجسد؟ ثم ما النفس؟ وما الروح؟ وما العلاقة بينهما؟ وما العلاقة بينهما وبين الجسم؟ وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق النفس، وخلق الجسم، فهل الروح أيضا مخلوقة؟ وهل هي حقيقة “سر الحياة”؟

هذه وغيرها كثير تساؤلات تطرح نفسها في إطار محاولتنا وضع اليد على الفارق بين المصطلحات الثلاثة، كمصطلحات تُمثل أبعاد الحياة الإنسانية، ومرتكزاتها؛ بل، ومناط السعي الإنساني، كـ”تكليف إلهي” لهذا الإنسان في الحياة الدنيا.

ولتكن البداية من التساؤل: ما النفس؟ وما العلاقة بينها وبين ثلاثية “الخلق والجعل والإنشاء”؟

والأهم ما صفات “النفس” في التنزيل الحكيم؟

بيَّن التنزيل الحكيم أن الله خلقنا من “نفسٖ وَاحِدَةٖ” جاء هذا في آيات ثلاث. يقول سبحانه: “خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا…” [الزمر: 6]. ومن خلال الحرف “ثُمَّ” الذي يُفيد وجود مسافة زمنية بين ما قبله وما بعده، يتبين أن هناك خلق من “نفس وَاحِدَة”، وهناك “جَعْل” لزوجها منها. والجعل تغير في الصيرورة، التي تنفي أي تعاقبية تكرارية على محور الزمان؛ فأن يكون هناك تغير فهذا يعني ـ بالطبع ـ أن النفس الأصل (الواحدة)، تحمل في تكوينها إمكانية جعل زوجها منها.

ولعل ذلك ما يتبدى عبر حركة العطف، التي تُشير إلى علاقة الخاص بالعام، في قوله تعالى: “هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ” [الأعراف: 189]. فالجعل يحمل دلالة العلاقة النسبية بالخلق وظواهره، كما تؤكد ذلك كل آيات الجعل في القرءان الكريم؛ ما يعني أنه إشارة إلى نسبية العلاقة بين ظواهر الخلق وحياة الإنسان.

وهذا ما يوضحه قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ” [النساء: 1]. ولنا أن نلاحظ أن فعل “بَثَّ” في اللسان العربي تعني تفريق الشيء وإظهاره، وأنه جاء في صيغة الماضي، والمضارع أيضا، للدلالة على استمرارية البث كـ”سُنَّة إلهية”؛ كما في قوله تعالى: “وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰت لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ” [الجاثية: 4].

فإذا اقتربنا من مصطلح “نفس واحِدَة”، فسوف نلاحظ أن لفظة نفس، في الآيات الثلاث، جاءت نكرة، وجاء وصفها بواحدة نكرة أيضا، وزوجها جاءت نكرة كذلك؛ ولأن النكرة تُفيد العموم، كما تُفيد غير المعين وغير المعروف، ولأن آدم عليه السلام هو معين ومعروف، لذا يتأكد لدينا أن مصطلح “نفس وَاحِدَة” يُراد بها جنس من الخلق، وليس شخصا مفردا بعينه. فلو كانت النفس الواحدة التي خلقنا الله منها هي آدم ـ كما يفهم البعض ـ لما جاءت نكرة في الآيات الثلاث.

الدليل على قولنا الأخير هذا، هو ورود “نفس واحِدَة” في آية رابعة، ولكن هذه المرة ترتبط بـ”الإنشاء”؛ نعني قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّ وَمُسۡتَوۡدَع قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ” [الأنعام: 98]. والإنشاء في اللسان العربي من نشأ، الذي يدل على ارتفاع في شيء وسمو.

هكذا تتكامل ثلاثية “الخلق، الجعل، الإنشاء” التي اختارها الله سبحانه وتعالى، ليوجد من خلالها الإنسان. يقول سبحانه: “وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ ٭ ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ ٭ ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ” [المؤمنون: 12-14].

ولنا أن نلاحظ هنا، أن لفظ “سلالة” من الفعل “سل”، الذي يدل على “نزع وخروج شيء من شيء” وهي مِنْ سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استَخْرَجْتَه منه؛ فليس المقصود بالسلالة عينة من الطين كما قال المفسرون القدماء، ومن تبعهم من المحدثين؛ إنما هي سلالة من البشر خُلِقت من الطين انسل منها آدم وزوجه. فهي لم ترد في التنزيل الحكيم إلا لمجموعة من الناس والذرية.

هذا.. وإن كان يوضح كيفية جعل آدم خليفة لمن سبقه من جنس البشر، وليس خليفة لله في الأرض؛ فهو -في الوقت نفسه- يؤكد أن النفس الإنسانية هي ذات الإنسان الحية، والفاعلة؛ بل والمُكَلَفة بمهام الاستخلاف. إذ يوضح التنزيل الحكيم أن كل ما يعود إلى الإنسان من حياة وموت وتكليف وبعث، إنما يعود إلى النفس ولا علاقة له بالروح، أو الجسم. يقول سبحانه وتعالى: “رَّبُّكُم أَعلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُم إِن تَكُونُواْ صَٰلِحِينَ فَإِنَّهُۥ كَانَ لِلۡأَوَّٰبِينَ غَفُورٗا” [الإسراء: 25]، ويقول سبحانه: “كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ…” [آل عمران: 185].

ولأن التكليف مرتبط بالنفس، وكذلك الكسب وأجره، سواء كان ثوابًا أم عقابًا، كما في قوله تعالى: “لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ” [البقرة: 286]، لذلك فهي مركبة عبر التقابل بين توجهين هما الفجور والتقوى. ففي قوله تبارك وتعالى: “وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٭ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا” [الشمس: 7-8]، تأكيد على قابلية النفس ـ بحكم تركيبها ـ لأن تنقسم على نفسها؛ فالتسوية الإلهية للنفس، إنما تأتي عبر إلهامها “فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا”.

وبالتالي، فإن حياة الإنسان تكون من خلال نفسه، وفاعليته تتمثل في مدى مقدرته على القيام بمهمته في الأرض. وبكلمة، فهو يستمد حياته وفاعليته من المقومات التي منحها الله إياه للقيام بذلك.

فماذا إذن عن صفات “النفس” في التنزيل الحكيم؟

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock